الكتب الفتوائية » الفتاوى الميسّـرة
البحث في:
وكيف أوجّهه؟ ←
→ حواريّة الاستحاضة
حواريّة الموت
لا أكتمكم أنّي ساعة بدأ أبي حواره عن الموت كنت متوتّراً ، مستفّز الأعصاب ، مستنفراً ، قلِقاً ، مشدوداً شدّاً عنيفاً الى وجهِ أبي ونبرات صوتِه وانحناءاتها وهو يتحدّث عن الموت ببطءٍ حذِر ، ينمُّ عن توجّسٍ محسوب .
لا أكتمكم كذلك أنّي كلّما تفوَّه أبي بكلمة ( الموت )ــ تلك الكلمة المخيفة المرعبة المجهولةــ أحسست بتسارع غير طبيعي لنبضٍ باتَ لفَرْط خوفي ممّا أصغي إليه يصبغ وجهي وأذنيّ ، على غير قصدٍ منّي ، بلونٍ قاتمٍ وينثر فوق جبهتي وأنفي حبّات مكتنزةٍ مِن عرقٍ محموم .
وإذ اكتسبت نبرة صوت أبي الخفيضة وشاحاً رماديّاً مِن توجّس حذِر وهو يسرد التفاصيل عن ( الموت والميّت ) راحت وتائر خوفي وقلقي تتصاعد شيئاً فشيئاً حتّى فضحَتْني .
ثمّ زادت ، فضيّقت عليّ بعد افتضاح أمري فرجة بوّابة الاعتراف .
وحين لاحظ أبي أمارات الخوف على تضاريس وجهي وحدَقَات عينَيَّ طاغيةً مستحكمة سألني. .
ـ أأنت خائف..؟
* وكيف لا أخاف ! .
ــ أخائف أنت مِن الموت أم مِن الميّت ؟
وإذ كنتُ أخاف من الميّت أكثر ممّا أخاف مِن الموت قلت :
* مِن الميّت .
لقد كان خوفاً مرعباً ذاك الذي اعترفت به اليوم . فلم أكن قد شاهدت طيلة عمري شخصاً يحتضر أو يموت ، بل لم أكن قد سمِعت قبل يومي هذا سرداً عمّا ينبغي عليّ أنْ أفعله وأمامي مَن يحتضر أو يموت .
كنت قبل هذا اليوم حين أُشاهد جنازة محمولة تنتابني حالة اكتئاب مضجر ، وضيقٍ موجّع ، حتّى لأُحول بصري عنها لأقطع خيط الذّاكرة من أنْ يسترسل .
* نعم أخاف من الميّت .
قتلها مرّة أُخرى لأُعيد تثبيت قناعتي .
ــ أتخاف من الميّت أكثر ممّا تخاف من الموت وما بعد الموت ؟
قال أبي وأضاف : أتخاف مَن كان قبل لحظةِ موته حيّاً مثلك يأكل ويشرب ، ويبكي ويضحك ، ويتنزه ويحلم ، وينام .
ثمّ.. ثمّ هجم عليه ما لو هجَم على كلّ حيّ لصرَعه .
لماذا لا تكون واقعيّاً أكثر ، فتخاف مِن الموت أكثر ممّا تخاف مِن الميّت ؟
أسألتَ نفسك أين ذهبَت كلّ تلك الأُمم السالفة وأجيالها المتعاقبة يوم ( أصبَحَت مساكنُهم أجداثاً ، وأموالُهم ميراثاً ، لا يعرفون مَن آثارهم ، ولا يحفلون مَن بكاهم ، ولا يجيبون مَن دعاهم ) .
فكم.. و ( تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ ).
ثمّ أين ذهَب مَن تعرف ممّن ذهب ؟
أين آباؤك السابقون ، وأجدادك الماضون.. أين فلان.. أين فلان.. أين فلان..؟! لقد ( استبدلوا بظهر الأرض بطناً ، وبالسعة ضيقاً ، وبالأهل غربةً ، وبالنّور ظلمةً ) .
ثمّ أنشد أبي :
كلّنا في غفلةٍ والموتُ يغـدو ويَـروحُُ
نُح على نفسِك يا مِسكيـن إنْ كنت تَنوحُ
لستَ بالباقي ولو عمّرت ما عمـرّ نـوحُ
وران صمتٌ كثيف على وجهه كانت الدّقائق تمُرّ فيه ثقيلةً بطيئة متأنّية كَمَن يعيد ترتيب صورة ما في ذهنه ، أو يعيد تجميع شيءٍ متناثر هنا وهناك في ذاكرته حتّى قطع صوتُه حبْل ذلك الصمت قائلاً :
رحِمَك الله يا أبا الحسن يومَ قُلت قبل ساعة موتك : ( أنا بالأمسِ صاحبُكم ، وأنا اليوم عِبرةٌ لكم ، وغداً مُفارقكم ، ليعظكم
هدوِّي ، وخفوت إطراقي ، وسُكون أطرافي ، فإنّه أوعظ للمُعتَبرين مِن المنطِق البليغ والقَولِ المَسموع )
ويوم قُلت يا سيدي : .
( واعلموا أنّه ليس لهذا الجِلد الرّقيق صبرٌ على النار ، فارحموا نفوسكم فإنّكم قد جرّبتموها في مصائب الدنيا .
أفرأيتم جزَع أحدِكم مِن الشوكة تُصيبه ، والعثرةِ تدميه ، والرمضاء تحرقه ؟ فكيف إذا كان بين طابِقَين مِن نار ضجيع حجَر وقرينَ شيطان ؟
أعلمتم أنّ مالِكاً إذا غضِب على النار حطّم بعضها بعضاً لغضبه ، وإذا زجَرها توثّبت بين أبوابها جزعاً مِن زجرته ) ؟! .
وأردف أبي :
آنَ لك وقد تكلّفت أنْ تخاف الموت لهول ما بَعد الموت : ( يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) .
( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ) .
وليكن الميّت أو المحتضر مذكِّراً لك بما سيؤول إليه مصيرُك.. لا مخيفاً مرعباً لك .
قالها أبي وصمَت ومُنذ قالها بدأت أعيد النظر بترتيب
مخاوِفي مِن جديد بتأمّل واعٍ الى أنْ قطَع أبي عليَّ تأمُّلاتي مؤكِّداً :
إذا صادف أنْ حضَرْت مُحتضراً مُسلماً فدع مخاوفك جانباً [ووجِّهه الى القبلة] .
وكيف أوجّهه؟ ←
→ حواريّة الاستحاضة
لا أكتمكم كذلك أنّي كلّما تفوَّه أبي بكلمة ( الموت )ــ تلك الكلمة المخيفة المرعبة المجهولةــ أحسست بتسارع غير طبيعي لنبضٍ باتَ لفَرْط خوفي ممّا أصغي إليه يصبغ وجهي وأذنيّ ، على غير قصدٍ منّي ، بلونٍ قاتمٍ وينثر فوق جبهتي وأنفي حبّات مكتنزةٍ مِن عرقٍ محموم .
وإذ اكتسبت نبرة صوت أبي الخفيضة وشاحاً رماديّاً مِن توجّس حذِر وهو يسرد التفاصيل عن ( الموت والميّت ) راحت وتائر خوفي وقلقي تتصاعد شيئاً فشيئاً حتّى فضحَتْني .
ثمّ زادت ، فضيّقت عليّ بعد افتضاح أمري فرجة بوّابة الاعتراف .
وحين لاحظ أبي أمارات الخوف على تضاريس وجهي وحدَقَات عينَيَّ طاغيةً مستحكمة سألني. .
ـ أأنت خائف..؟
* وكيف لا أخاف ! .
ــ أخائف أنت مِن الموت أم مِن الميّت ؟
وإذ كنتُ أخاف من الميّت أكثر ممّا أخاف مِن الموت قلت :
* مِن الميّت .
لقد كان خوفاً مرعباً ذاك الذي اعترفت به اليوم . فلم أكن قد شاهدت طيلة عمري شخصاً يحتضر أو يموت ، بل لم أكن قد سمِعت قبل يومي هذا سرداً عمّا ينبغي عليّ أنْ أفعله وأمامي مَن يحتضر أو يموت .
كنت قبل هذا اليوم حين أُشاهد جنازة محمولة تنتابني حالة اكتئاب مضجر ، وضيقٍ موجّع ، حتّى لأُحول بصري عنها لأقطع خيط الذّاكرة من أنْ يسترسل .
* نعم أخاف من الميّت .
قتلها مرّة أُخرى لأُعيد تثبيت قناعتي .
ــ أتخاف من الميّت أكثر ممّا تخاف من الموت وما بعد الموت ؟
قال أبي وأضاف : أتخاف مَن كان قبل لحظةِ موته حيّاً مثلك يأكل ويشرب ، ويبكي ويضحك ، ويتنزه ويحلم ، وينام .
ثمّ.. ثمّ هجم عليه ما لو هجَم على كلّ حيّ لصرَعه .
لماذا لا تكون واقعيّاً أكثر ، فتخاف مِن الموت أكثر ممّا تخاف مِن الميّت ؟
أسألتَ نفسك أين ذهبَت كلّ تلك الأُمم السالفة وأجيالها المتعاقبة يوم ( أصبَحَت مساكنُهم أجداثاً ، وأموالُهم ميراثاً ، لا يعرفون مَن آثارهم ، ولا يحفلون مَن بكاهم ، ولا يجيبون مَن دعاهم ) .
فكم.. و ( تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ ).
ثمّ أين ذهَب مَن تعرف ممّن ذهب ؟
أين آباؤك السابقون ، وأجدادك الماضون.. أين فلان.. أين فلان.. أين فلان..؟! لقد ( استبدلوا بظهر الأرض بطناً ، وبالسعة ضيقاً ، وبالأهل غربةً ، وبالنّور ظلمةً ) .
ثمّ أنشد أبي :
كلّنا في غفلةٍ والموتُ يغـدو ويَـروحُُ
نُح على نفسِك يا مِسكيـن إنْ كنت تَنوحُ
لستَ بالباقي ولو عمّرت ما عمـرّ نـوحُ
وران صمتٌ كثيف على وجهه كانت الدّقائق تمُرّ فيه ثقيلةً بطيئة متأنّية كَمَن يعيد ترتيب صورة ما في ذهنه ، أو يعيد تجميع شيءٍ متناثر هنا وهناك في ذاكرته حتّى قطع صوتُه حبْل ذلك الصمت قائلاً :
رحِمَك الله يا أبا الحسن يومَ قُلت قبل ساعة موتك : ( أنا بالأمسِ صاحبُكم ، وأنا اليوم عِبرةٌ لكم ، وغداً مُفارقكم ، ليعظكم
هدوِّي ، وخفوت إطراقي ، وسُكون أطرافي ، فإنّه أوعظ للمُعتَبرين مِن المنطِق البليغ والقَولِ المَسموع )
ويوم قُلت يا سيدي : .
( واعلموا أنّه ليس لهذا الجِلد الرّقيق صبرٌ على النار ، فارحموا نفوسكم فإنّكم قد جرّبتموها في مصائب الدنيا .
أفرأيتم جزَع أحدِكم مِن الشوكة تُصيبه ، والعثرةِ تدميه ، والرمضاء تحرقه ؟ فكيف إذا كان بين طابِقَين مِن نار ضجيع حجَر وقرينَ شيطان ؟
أعلمتم أنّ مالِكاً إذا غضِب على النار حطّم بعضها بعضاً لغضبه ، وإذا زجَرها توثّبت بين أبوابها جزعاً مِن زجرته ) ؟! .
وأردف أبي :
آنَ لك وقد تكلّفت أنْ تخاف الموت لهول ما بَعد الموت : ( يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) .
( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ) .
وليكن الميّت أو المحتضر مذكِّراً لك بما سيؤول إليه مصيرُك.. لا مخيفاً مرعباً لك .
قالها أبي وصمَت ومُنذ قالها بدأت أعيد النظر بترتيب
مخاوِفي مِن جديد بتأمّل واعٍ الى أنْ قطَع أبي عليَّ تأمُّلاتي مؤكِّداً :
إذا صادف أنْ حضَرْت مُحتضراً مُسلماً فدع مخاوفك جانباً [ووجِّهه الى القبلة] .