الكتب الفتوائية » الفقه للمغتربين
البحث في:
تعريف ببعض المصطلحات الواردة في الفتاوى ←
تمهيد
في صبيحة يوم شتوي مشمس من أيام شهر رجب عام 1416هـ ـ كانون الأول 1995م أقلعت بي الطائرة متوجهة صوب العاصمة البريطانية لندن.
وحين تقلع الطائرة من شرق الأرض الى غربها... من وطن الصحو الى عاصمة الضباب، يكون دفء الشمس المتسلل عبر نافذة الطائرة والذي سأودعه هو الآخر كما ودعت وطني، دفءً ذا مغزى.
استوت الطائرة في كبد السماء واستقرت في طيرانها هادئة ناعمة كما لو كانت ثابتة فوق قطب مركزي راسخ، فقررت أن أستثمر الوقت بقراءة بعض سور من القرآن الكريم في مصحف صغيركان معي، وكانت تلك عادة اعتدت عليها منذ صباي، فقد فتحت عينيّ على جدي في بيتنا الكبير في النجف الأشرف وهو يقرأ القرآن صباح كل يوم، وبعد الظهر، وعند المساء، وحين السفر، وفي أوقات أخرى، ووعيت على أبي وهو يحمل في جيبه قرآناً لا يكاد يفارقه في حلّه وترحاله. فتحت المصحف الكريم وبدأت أرتل بصوت خفيض خاشع آيات من الذكر الحكيم، لأغسل روحي ورئتي ودمي، ولأطيّب فمي من أدران المادة ومغرياتها، ولأستعين بالله عزّ وجلّ كي يحفظ ويسلم ويرعى هذه الكتلة الحديدية المعلقة بين السماء والأرض من عوادي الزمن وصروفه.
إنتصف النهار أو كاد وأزف وقت صلاة الظهر، فنهضت من مقعدي وتوجهت نحو الحمام، فجددت وضوئي، ثم أخرجت مشطاً من جيبي فأعدت تصفيف شعري ثانية بعد الوضوء، ثم أخرجت قنينة عطر صغيرة اعتدت أن أحملها في جيبي باستمرار لأتعطّر، ذلك أني قرأت أن العطر مستحب، وأن النبي محمداً (ص) كان يحبه، وأن صلاة المتعطر تعدل سبعين صلاة.
ولّما انتهيت من الوضوء والتمشيط والتطّيب فتحت باب الحمام وخرجت عائداً لمكاني.
جلست على المقعد وأنا أرتّل بعض آيات من القرآن الكريم كنت حفظتها من طفولتي، ثم أخذت أفكر.
أين سأصلي؟ وكيف سأعرف اتجاه القبلة؟ وهل يجب عليّ أن أصلي قائما أو جالساً؟
وإذ داهمني هذا الخاطر أعدت استرجاع معلوماتي الشرعية، فتذكرت قول الفقهاء: بأنه يجب عليّ الصلاة قائماً ما دمت أقدر على ذلك، فإن عجزت عن أداء صلاتي قائماً، صلّيتها من جلوس، وهكذا أنتقل بالحكم الى الأدنى فالأدنى، وأنزل درجة درجة حسب القدرة والاستطاعة، لأن الصلاة لا تسقط عن المسلم بحال.
وحين وصلت الى هذه النتيجة، أجلت نظري في الطائرة لأتفحص وجود مكان يمكنني أن أصلي فيه وأنا قائم، فوقع بصري على مكان صغير في أحد جوانب الطائرة كاف لأداء الصلاة، فقلت في نفسي: لقد تهيأ المكان، بقي علي أن أعرف اتجاه القبلة ما دامت الطائرة مستقرة الآن أو شبه واقفة. فقررت أن أستعين بطاقم الطائرة لأعرف منه اتجاه القبلة.
مرّ المضيف ليرفع أكواب الشاي من على المناضد الصغيرة المفتوحة، أمام مقاعد المسافرين، فاستثمرت الفرصة لأسأله بلغة إنكليزية ركيكة، قائلاً له:
ـ أتسمح لي بسؤال.
ـ نعم تفضل.
ـ هل يمكنك أن تساعدني فترشدني الى اتجاه القبلة؟
ـ آسف لم أفهم ما تريد.
ـ إتجاه القبلة.... إتجاه مكة المكرمة.
ـ هل أنت مسلم؟
ـ نعم، وأريد أن أصلي صلاة الظهر.
ـ دعني أسأل غرفة القيادة وأعود في الحال.
ذهب المضيف ليسأل غرفة القيادة، فتذكرت أني يجب أن أسأله عن شيء ما أضعه على أرضية الطائرة وأصلي عليه. وحين عاد ومعه جواب لسؤالي عن القبلة، استأذنته أن يحضر لي شيئاً ما أصلي عليه، قطعة قماش، جريدة مثلاً.
فأحضر لي شرشفاً فرشته على أرضية الطائرة وصليت صلاة الظهر، ثم صلاة العصر، ركعتين ركعتين، قصراً متوجهاً الى القبلة، ثم سبّحت تسبيح الزهراء (ع)؛ فكبرت ألله أربعاً وثلاثين مرة، ثم حمدته ثلاثاً وثلاثين مرة، ثم سبّحته ثلاثاً وثلاثين مرة، وحين انتهيت من تسبيح الزهراء، شكرت الله، وعدت ثانية لمقعدي وأنا بشعور آخر وقناعة أخرى، فقد كنت أظن أن الصلاة في الطائرة متعبة، وأنها ربما ستحرجني أمام أعين النظار، غير أني كنت مخطئاً. فقد تبيّن لي أن الصلاة تكسبني أحتراماً خاصاً، وتضفي عليّ هيبة محبّبة لحظتها واضحة حتى في أعين غير المسلمين ممن كانوا معي على متن الطائرة، بما في ذلك طاقم الطائرة نفسه.
وبينما كنت مستغرقاً في تأملاتي، إذ قطع عليَّ صوت المذيع تسلسل أفكاري معلناً بدء تقديم وجبة الغداء. توزعت على الفور مضيفات الطائرة يسألن الركاب ما إذا كانوا يفضّلون نوعاً معيناً مما تضمنته قائمة الطائرة من الطعام.
وجاء دوري فسألتني إحداهن عما إذا كنت أفضل أن يكون طبقي الرئيسي سمكاً أو دجاجاً.. ولما تبيّن لي أن السمك ذو قشر، اخترت السمك، ليس لأن السمك أحبُّ إليَّ ذلك اليوم من الدجاج، ولكن لأن الدجاج لا يحق لي أكله، لأني سآخذه من يد غير المسلم، وأنا غير متأكد من أنه مذكى أو مذبوح وفق قواعد الذباحة في الشريعة الإسلامية، وتلك مشكلة ستواجهني كثيراً في بلاد الغربة.
لقد ولدت في بلد إسلامي، ونشأت وترعرعت وكبرت فيه، وكنت كلما شككت في صحة ذباحة البقر أو الغنم أو الدجاج وأشباهها، أو ترددت في حليّة أكلي للسمك الذي أشتريته من سوق مدينتي المسلمة، مضيت غير معتنٍ بذلك الشك، ولا ملتفت لذلك التردد، فأكلت مرتاح البال، هادئ الخاطر، طيب النفس.
أما في بلدي الغربي هذه المرة فالأمر مختلف تماماً، ذلك أنه لا يحق لي أن آكل أي لحم يبيعه بائع غير مسلم حتى أتأكد من أنه مذكى أو مذبوح وفق قواعد الذباحة في الشريعة الإسلامية المقدسة. وتلك مسألة لا تخلو من صعوبة عادة.
أحضرت المضيفة الطعام.. وكانت وجبة شهية تلك الوجبة التي وضعت أمامي:
طبق من السمك مقلي بزيت عباد الشمس، محاط بقطع من البطاطا المحمّرة مع قليل من الرز والسلطة والخضار، وجبتان من الزيتون الأخضر، وعدة حبات من العنب، وتينة سوداء، وقطعة حلويات، وكأس ماء مختوم، مع أكياس صغيرة من الملح والسكر والبهارات، وقطعتان من الخبز، وشوكة، وملعقتان، وسكين، ومنشفة. وكنت جائعاً حقاً.
حمدت الله أولاً، ثم رفعت الشوكة فغرزتها في قلب قطعة السمك المقلي لأثبّتها بها، ثم قطّعتها بالسكين قطعاً متوسطة الحجم ليسهل عليّ أكلها ثم .. ثم تذكرت شيئاً ما وأنا أنهي تقطيع السمك فتوقفت:
ترى، إذا كان السمك ذا فلس وأخرج من الماء حياً أو مات في الشبكة بعد الصيد فيحق لي أكله، سواء اصطاده الكافر أم المسلم؟ وسواء أذكر عليه صائده اسم الله عزّ وجل فسمّى، أم لم يذكره فلم يسمّ؟ هذا صحيح، ولكن المشكلة في الزيت الذي قلي به هذا السمك.
ترى هل كان ذلك الزيت طاهراً؟
ثم هل أن الذي قلاّه كان مسلماً؟
لقد كان خاطراً غير مريح ذلك الخاطر الذي نبت في رأسي تلك الساعة، فأوقفني عن تناول تلك القطعة الشهية من ذلك السمك اللذيذ الساخن، وأنا جائع. وضعت الشوكة المحمّلة بقطعة السمك على طرف الإناء، وحاولت إعادة استرجاع معلوماتي التي قرأتها عن هذه المسألة في الرسالة العملية لمقلّدي وأنا أستعد للسفر.
فسألت نفسي عن زيت عباد الشمس، هل هو طاهر؟ وأجبت على الفور بنعم؛ لأن الحكم الشرعي يقول «كل شيء لك طاهر حتى تعلم بنجاسته» ولما كنت لا أعلم بنجاسة الزيت، فالزيت إذاً طاهر. هذا أولاً.
ولما كان الزيت طاهراً وقُلي به السمك الطاهر، فسيكون الكل طاهراً، ويحق لي أكله، ثانياً. أما أن الذي قلى السمك الطاهر، بالزيت الطاهر، هل هو مسلم أو من أهل الكتاب فهو طاهر، أو هو غير مسلم ولا كتابي، فذلك لا يهم، ما دمت لا أعلم أن الذي قلاه قد مسه بيده.
وعودة أخرى الى الحكم الشرعي السابق: « كل شيء لك طاهر حتى تعلم بنجاسته» تعطينا نتيجة واضحة، وهي أن السمك طاهر، ويحق لي أكله. وحين وصلت الى هذه النتيجة تنفست الصعداء واسترحت، ثم عدت فحملت الشوكة وسمكتها المغروزة بها فأكلتها.. ثم انعطفت على البطاطة المقلية بالزيت ـ والتي لا أعلم بنجاستها كذلك فهي طاهرة ـ وأكلتها.
وكذلك فعلت بالخبز والسلطة والفاكهة والحلويات.. أكلتها كلها فهي طاهرة.. وشربت بعدها كوب الماء وكوب الشاي فهما طاهران كذلك. هكذا يقول لي الحكم الشرعي. ثم حمدت الله عزوجل وشكرته على نعمه وآلائه وانتهيت.
بعد وجبة الغداء والشاي، أغمضت عينيّ قليلاً لأستريح، ثم فتحتها وأدرت رأسي صوب نافذة الطائرة. نظرت الى أعلى فاحتوتني زرقة السماء وشفافيتها ثم نظرت الى أسفل فحفّت بي زرقة البحر، كنت مطوقاً بالزرقة من كل مكان، عائماً وسطها، سابحاً في فضاء بهيج لا متناه. كانت الطائرة تحلق على ارتفاع ثلاثين ألف قدم فوق مستوى سطح البحر، وكان أمامنا أكثر من ساعتين ونصف الساعة حتى نصل الى مطار هيثرو (Heathrow) الدولي بلندن.
أجلت نظري داخل الطائرة: كان بعض الركاب منهمكاً بقراءة صحف الصباح التي وضعتها المضيفات أمامهم ليقطعوا بها ما تبقى من وقت الرحلة، بينما غطّ بعضهم في نوم عميق. مددت يدي بتثاقل فتناولت صحيفة الصباح. كانت العناوين الرئيسية المكتوبة بحروف حمراء وسوداء كبيرة لتلفت نظر القارئ تمرُّ عليها عيناي دون تركيز، بينما راحت ذاكرتي تسترجع السؤال الذي شغلها باستمرار طوال الأيام القليلة الماضية:
كيف سأحافظ على هويتي الدينية الثقافية من الاستلاب في بلد الغربة؟
لقد أرّقني هذا الهمُّ طويلاً منذ فكرت بالسفر الى أوروبا، وزاد فعّرش في قلبي يوم عزمت عليه، ولا زال هو عينه، شغلي الشاغل في كل آن، أستدعيه حيناً، ويحضر من دون استدعاء أحياناً، يغفو معي على مخدّة المساء عند النوم، ويستيقظ معي ساعة أستيقظ في الصباح.
ضغط عليّ مرة لأقصد صديقاً سافر قبلي الى لندن وعاد، فأشار صديقي عليّ بعدة أمور. وقادني الى المكتبة مرة أخرى، ففتح عيني كتاب ضمته رفوفها على عدة قضايا تضعني في الجو العام لما يجب عليّ أن أفعله. لقد أكّد عليّ كلاهما أن آخذ في اعتباري مسألة بالغة الأهمية مفادها (أن الهجرة لا تنحصر سلبياتها في إمكانية ضياع الحكم الشرعي فقط عند المهاجرين، أو عدم تفقههم في الدين، بل أن الأمر يتعدى إلى ما هو أسوأ من ذلك، إذ يمكن أن تترتب على هذه الهجرة آثار خطيرة تظهر بشكل واضح في تربية الانسان المسلم وعاداته وتقاليده ونمط حياته الفكرية والأخلاقية والاجتماعية).
وزاد كاتب الكتاب فذكر (أن على المسلم الذي يضطر للهجرة الى بلاد الكفر أن يوجد بنفسه المناخ الديني المفقود في تلك البلاد، صحيح أنه لا يستطيع إيجاد الجو العام، ولكن باستطاعته أن يخلق هذا الجو الخاص فيكيف ذاته وفق مناخه الديني الذي ينسجم معه.
إن تهيئة الجو الملائم ذي الطابع الإسلامي يشبه الى حد ما عملية التطعيم ضد مرض لا يستطيع الفرار منه، فيحاول تدارك خطره من خلال المضادات التي يخلقها بنفسه.
إننا في الوقت الذي لا ندعي سهولة ذلك، وحلّ هذه المسألة ببساطة تنظيرية، إلا أننا في ذات الوقت لا يمكننا التقليل من أهمية خسارة المؤمن لالتزامه الديني الذي هو أساس مهم في تكوين شخصيته، فينبغي إذاً المحافظة عليه ولو كان ذلك يتوقف على الخسارة في أي جانب من حياته.
إننا بالمقدار الذي نشدد على خطورة تلك الآثار نشدّد أيضاً على أهمية صيانة المؤمن من الوقوع فيها وإنقاذه منها.
إن المؤمن الذي سعى لتلك البلاد لتأمين مستقبله الدنيوي ـ العلمي أو الاقتصادي أو غيرهما ـ لا يجوز له أن يخسر مستقبله الأخروي في سبيل ذلك، تماماً كأي تاجر لا ينبغي له أن يخسر شرفه أو حياته في مقابل حفنة من المال قلّت أو كثرت. إذ ما قيمة هذه في مقابل تلك، وهكذا الحال في المريض الذي تحمّل مرارة الدواء أو حرارة الكيّ لكي لا يستمر المرض فيؤدي الى الوفاة.
أذن لابد للمؤمن وهو يعيش في هذا الجو الموبوء أن يحصّن نفسه ضد عوارضه ومخاطره ولا بد له أن يخلق الأجواء الدينية المناسبة له والتي تعوّضه عن خسارته للأجواء التي كان يتمتع بها في بلده) هو وعائلته وأولاده بل وحتى إخوانه في الدين عملاً بقوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ) والتزاماً بقوله عز من قائل (المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) و قوله (ص) (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) وتطبيقاً لأحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ويتم ذلك التحصين من خلال أمور منها:
1. الالتزام بتلاوة بعض سور أو آيات كريمة من كتاب الله العزيز كل يوم قدر الامكان، أو الانصات الى مقرئيها بخشوع وتدبر وتفكّر، ففيها ( بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون، وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وانصتوا لعلكم ترحمون) ذلك أنه (ما جالس هذا القرآن أحد إلاّ قام عنه بزيادة أو نقصان: زيادة في هدى، أو نقصان من عمى، واعلموا أنه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة، ولا لأحد بعد القرآن من غنى، فاستشفوه من أدوائكم، واستعينوا به على لأوائكم فإن فيه شفاءً من أكبر الداء وهو الكفر والنفاق والغي والضلال فاسألوا الله به وتوجّهوا اليه بحبه ولا تسألوا به خلقه إنه ما توجه العباد إلى الله بمثله، واعلموا أنه شافع مشفع وقائل مصدّق وأنه من شفع له القرآن يوم القيامة شُفّع فيه) وأنه (من قرأ القرآن وهو شاب مؤمن اختلط القرآن بلحمه ودمه وجعله الله عز وجل من السفرة الكرام البررة وكان القرآن حجيزاً عنه يوم القيامة). وهناك بعض المصاحف المفسرة الموجزة التي يسهل حملها ويكثر نفعها في الغربة.
2. الالتزام بأداء الصلوات الوجبة في أوقاتها، بل وغير الواجبة كلما أمكن ذلك فقد ورد عن النبي محمد (ص) أنه قال لعبد الله بن رواحة في وصيته له حين خرج لحرب مؤتة «إنك قادم بلداً السجود فيه قليل فأكثروا السجود».
وروى زيد الشحام « عن أبي عبدالله (ع) قال: سمعته يقول: أحبُّ الأعمال الى الله عزوجل الصلاة، وهي آخر وصايا الأنبياء».
كما أوصانا الإمام علي (ع) بالصلاة قائلاً «تعاهدوا أمر الصلاة وحافضوا عليها واستكثروا منها وتقربوا بها فانها (كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا) ألا تسمعون إلى جواب أهل النار حين سئلوا(ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين)وأنها لتحتّ الذنوب حتّ الورق وتطلقها إطلاق الربق، وشبّهها رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بالحمّة تكون على باب الرجل فهو يغتسل منها في اليوم والليلة خمس مرات فما عسى أن يبقى عليه من الدرن».
3. قراءة ما تيسر من الأدعية والمناجاة والاذكار، فهي مذكّرة بالذنوب حاثّة على التوبة، داعية إلى اجتناب السيئات والتزود بالحسنات أمثال أدعية الصحيفة السجادية للإمام زين العابدين (ع)، ودعاء كميل بن زياد، وأدعية شهر رمضان كدعاء أبي حمزة الثمالي وأدعية السحر، وأدعية أيام الأسبوع، وغيرها كثير. إن هذا التطهر يحتاج إليه كل مسلم وبخاصة إذا كان في بلد غير أسلامي.
4. كثرة التردد على المراكز والمؤسسات الإسلامية التي تحيي الأعياد والمناسبات الدينية والمواليد والمآتم وبقية المناسبات الدينية الأخرى بالوعظ والارشاد والتوجية، سواء أكان في شهر رمضان الكريم أم في شهري محرم وصفر أم في غيرهما من الشهور والأيام والأوقات الأخرى. ثم المبادرة الى إحياء هذه المناسبات داخل البيوت في البلدان التي تفتقر الى وجود مثل هذه المراكز والمؤسسات الهادفة.
5. حضور الندوات والمؤتمرات الإسلامية التي تقام في بلدان المهجر والمشاركة فيها.
6. قراءة الكتب والمجلات والصحف الإسلامية للاستفادة منها، وإثرائها بالنافع والممتع معاً في آن واحد.
7. الاستماع الى أشرطة التسجيل المختلفة المتضمنة لمحاضرات إسلامية نافعة سهر على إعدادها أساتذة أفاضل وخطباء كبار فإن فيها موعظة وتذكيراً.
8. إجتناب أماكن اللهو والفساد بما في ذلك مشاهدة البرامج التلفزيونية السيئة والقنوات الخاصة ببعض ما لا يتلائم مع عقيدتنا وديننا وقيمنا وأعرافنا وتقاليدنا وتراثنا الفكري والحضاري الإسلامي.
9. إتخاذ أصدقاء صالحين في الله، يرشدهم ويرشدونه، ويقوّمهم ويقوّمونه، ويقضي معهم أوقات الفراغ بالمفيد، ويتخلص بهم من قرناء السوء، ومن العزلة وسلبياتها، فقد روى الإمام الصادق (ع) عن آبائه عليهم السلام قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث، ما استفاد امرؤ مسلم فائدة بعد الاسلام مثل أخ يستفيده في الله» ، وقال ميسرة: قال لي الإمام أبو جعفر الصادق (ع) «أتخلون وتتحدثون وتقولون ما شئتم؟ فقلت: أي والله إنا لنخلو ونتحدث، ونقول ما شئنا فقال: أما والله لوددت أني معكم في بعض تلك المواطن، أما والله إني لأحب ريحكم وأرواحكم وأنكم على دين الله ودين ملائكته فأعينوا بورع واجتهاد».
10. محاسبة الانسان نفسه كل يوم، أو كل أسبوع، عمّا فعله، فإن كان خيراً شكر الله على ذلك واستزاد منه، وإن كان شراً استغفر وتاب عنه، وعزم أن لا يعود اليه كرة أخرى، فقد أوصى النبي الكريم محمد (ص) أبا ذر بذلك قائلاً له «يا أبا ذر حاسب نفسك قبل أن تحاسب، فإنه أهون لحسابك غداً، وزن نفسك قبل أن توزن، وتجهّز للعرض الأكبر يوم تعرض لا تخفى على الله خافية... يا أبا ذر لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك شريكه فيعلم من أين مشربه وملبسه أمن حلال أو من حرام» ، وقال الإمام الكاظم (ع) «ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل حسنة استزاد الله تعالى، وإن عمل سيئة استغفر الله منها وتاب اليه».
11. الاهتمام باللغة العربية لغة القرآن الكريم ولغة العديد من مصادر أحكام وآداب الشريعة الإسلامية إضافة لكونها لغة الآباء والأجداد بالنسبة للناطقين بها من المسلمين، مع التركيز على الأبناء الذين يجب أن لا يتحدث معهم الأهل إلاّ بها، وإذا كان الطلاب يتعلمون في هذه البلدان أكثر من لغة أجنبية، فمن الجدير بهم أن يتعلموا لغة القرآن الكريم ليتواصلوا بها مع دينهم وتراثهم وقيمهم وتأريخهم وحضارتهم.
12. الاهتمام بالجيل الجديد من خلال تربية الأولاد من الجنسين على حبّ كتاب الله وتلاوته بواسطة المسابقات والفعاليات المشوّقة الأخرى، وترويضهم على أداء العبادات والتحلي بمكارم الأخلاق كالصدق والشجاعة والوفاء بالوعد وحبّ الآخرين ثم اصطحابهم الى المؤسسات والمراكز الإسلامية لتعويدهم على ارتيادها، وتعريفهم بأعداء الاسلام، وتركيز روح الأخوة الإسلامية فيهم، والأخذ بيدهم للمشاركة في إحياء المناسبات والأعياد الإسلامية، تربية حبّ العمل والجدّ فيهم وغير ذلك، مما يعينهم على فهم أفضل للاسلام وسلوك أفضل وفق قيمه ومبادئه في هذه الحياة.
أوقفتُ عند هذه النقطة انسيابية التأمل، ونظرت الى السماء، فأدهشتني تشكيلات من سحب بيضاء راحت تتجمع من هنا وهناك كأنها قطن مندوف يوضع بعناية على أرضية من مخمل زرقاء. استهواني المنظر فاستغرقت فيه حتى امتليت.
كانت قطعان السحب المبثوثة تتجمع شيئاً فشيئاً متآلفة أو متعانقة أو مُتّحدة، متخلّية عن خصوصياتها الذاتية، مشرعة نوافذها للآخر، مستجيبة له، ذائبة فيه أو فانية. عاودني الخاطر المؤرق مرة آخرى فسألت نفسي:
كيف يجب عليَّ أن أسلك في بلاد الغربة فأحتفظ بخصوصياتي الذاتية دون أن أفنى في ثقافة الآخرين أو أذوب، ودون أن أنغلق على نفسي فأتقوقع؟ ثم سألتها: ترى كيف سيحكم عليّ الآخرون ممن سوف أعيش بين ظهرانيهم؟
لقد عودتني مدينتي المكتظة بالزائرين والسياح على مدار العام أن أحكم على سلوك شعب من خلال سلوك أبنائه، أو دين من خلال تصرفات معتنقيه، فإذا أحسن المعاملة زائر من بلد ما، قلت: إن سكان ذلك البلد طيبون، وإذا أساء التصرف سائح ما، قلت: إن سكان ذلك البلد سيئون وهكذا.
وطبيعي أن سكان بلاد الغربة حيث أسكن سيحكمون على الاسلام من خلال سلوكي أنا المسلم وسيعممون حكمهم ذاك على المسلمين. فإذا صدقتُ في القول والفعل، ووفيت بالوعد، وأديت الأمانة، وحسّنت خلقي، وطبقت قوانين النظام العام، وأعنت المحتاجين، وعاملت جاري باحسان، وتأسيت بالنبي محمد (ص) في سلوك، وطبقت تعاليمه القائلة بأن (الدين المعاملة). إذا فعلت ذلك كلّه قال من يتعامل معي من غير المسلمين: بأن الاسلام دين مكارم الأخلاق.
وإذا كذبت، وأخلفت الوعد، وأوحش خلقي من حولي، وأخللت بالنظام العام، وأسأت لجاري، وغششت في المعاملة، وخنت الأمانة، ونحو ذلك قال المتعاملون معي: بأن الاسلام دين لا يعلّم أتباعه مكارم الأخلاق.
قطع عليَّ قائد الطائرة سلسلة أفكاري، فأعلن عن أننا الآن نسير فوق الأراضي الألمانية متوجهين نحو لندن. مددت يدي صوت حقيبتي، فأخرجت منها كتاباً كنت جلبته لأستعين به، فاستوقفتني روايات خمس وردت عن الإمام الصادق (ع).
يقول في الأولى مخاطباً أتباعه وشيعته: «كونوا لنا زيناً ولا تكونوا علينا شيناً، حبّبونا الى الناس ولا تبغّضونا اليهم».
وينقل في الثانية عن أبيه (ع) قوله: « كونوا من السابقين بالخيرات وكونوا ورقاً لا شوك فيه، فإن من كان قبلكم كانوا ورقاً لا شوك فيه وقد خفت أن تكونوا شوكاً لا ورق فيه، وكونوا دعاة إلى ربكم وأدخلوا الناس في الاسلام ولا تخرجوهم منه وكذلك من كان قبلكم يدخلونهم في الاسلام ولا يخرجونهم منه».
ويقول (ع) في الثالثة بعد أن يبعث بسلامه الى من يأخذ بقوله من شيعته «أوصيكم بتقوى الله عز وجل، والورع في دينكم، والاجتهاد لله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد (صلى الله عليه وآله) أدّوا الأمانة الى من ائتمنكم عليها براً أو فاجراً، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يأمر بأداء الخيط والمخيط، صلوا عشائركم واشهدوا جنائزكم وعودوا مرضاكم وأدّوا حقوقهم، فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق في الحديث، وأدى الأمانة، وحسن خلقه مع الناس، قيل هذا جعفري فيسرني ذلك، ويدخل عليَّ منه السرور، وقيل هذا أدب جعفر، وإذا كان على غير ذلك، دخل عليّ بلاؤه وعاره، وقيل هذا أدب جعفر، والله لقد حدثني أبي عليه السلام، أن الرجل كان يكون في القبيلة من شيعة علي (ع) فيكون زينها: أأداهم للأمانة، وأقضاهم للحقوق، وأصدقهم للحديث، إليه وصاياهم وودائعهم، تسأل العشيرة عنه، فتقول من مثل فلان، إنه أأدانا للأمانة وأصدقنا للحديث».
ويقول في الرابعة «عليكم بالصلاة في المساجد، وحسن الجوار للناس، وإقامة الشهادة، وحضور الجنائز، وإنه لا بدّ لكم من الناس، إنّ أحداً لا يستغني عن الناس حياته، والناس لا بدّ لبعضهم من بعض».
ويجيب (ع) في الخامسة معاوية بن وهب عن سؤال له، يقول معاوية : « قلت له : كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا وبين خلطائنا من الناس ممن ليسوا على أمرنا ؟ فقال تنطرون الى أئمتكم الذين تقتدون بهم فتصنعون ما يصنعون ، فوالله إنهم ليعودون مرضاهم ، ويشهدون جنائزهم ، ويقيمون الشهادة لهم وعليهم ، ويؤدون الأمانة اليهم».
وما أن انتهيت من قراءة هذه الأحاديث حتى استرحت، لقد خفّف عني كثيراً حديث الإمام الصادق (ع) هذا ووصيته لشيعته وأتباعه، فقد رسم لي (ع) طريق عمل، وحدّد لي قواعد سلوك، فإذا ضممت اليها قراري بأن أدوّن في دفتر ملاحظاتي أهم المسائل الشرعية التي ستعترضني في بلاد الغربة، مستعيناً بما في جعبتي من كتب فقهية، فإذا جدّت إشكاليات جديدة لم أجل لها حلاً فيما معي كاتبت الفقيه أستفتيه ليجيبني عنها، إذا ضممت اليها ذلك، فسأكون قد عالجت مشكلتي ومشكلة المهاجرين الآخرين معي بشقيها الأخلاقي والفقهي. هكذا بدأت أكتب مسائلي الشرعية مسألة مسألة، وأستفتي الفقيه حول ما تعذّر عليّ تحصيل جوابه من رسالته العملية مسألة مسألة، وشيئاً فشيئاً كان هذا الكتاب.
وقد تقاسم الكتاب بابان: باب لفقه العبادات، وباب لفقه المعاملات، وثلاثة ملاحق.
ضم الباب الأول الخاص بفقه المعبادات فصولاً سبعة، قدّرت أنها تهمّ المغترب أكثر من غيرها، وهي: الاغتراب والهجرة والدخول الى البلدان غير الإسلامية، والتقليد، والطهارة، والنجاسة، والصلاة، والصوم، والحج، وشؤون الميت. يعرض كل فصل منها لمقدمة حوله، ويتناول بعض أحكامه مما يكثر الاحتياج اليها في بلد الغربة، ويستعرض أهمّ الاستفتاءات الخاصة به.
وتناول الباب الثاني الخاص بفقه المعاملات أحد عشر فصلاً هي على التوالي: المأكولات والمشروبات، والملابس، والتعامل مع قوانين النافذة في دول المهجر، والعمل وحركة رأس المال، والعلاقات الاجتماعية، والشؤون الطبية، وشؤون النساء، وشؤون الشباب، وأحكام الموسيقى والغناء والرقص، وفصل للمتفرقات. يعرض كل فصل منها لمقدمة حوله، ويعرّف ببعض أحكامه، ويشير لأهم الاستفتاءات الخاصة به.
كما ضم الكتاب ثلاثة ملاحق، عرض الملحق الأول لنماذج من استفتاءات الكتاب وأجوبة سماحة سيدنا ( دام ظله ) عنها. وعرض الملحق الثاني للائحة بمواد أساسية تدخل كثيراً في صناعة الأغذية يحرم على المسلم تناولها. وسرد الملحق الثالث قائمة بأسماء وصور بعض الأسماك من ذوات الفلس التي يحل أكلها للمسلم. وختم الكتاب بخاتمة، أعقبتها قائمة ضمت المصادر والمراجع، ثم الفهرست التفصيلي للكتاب.
تعريف ببعض المصطلحات الواردة في الفتاوى ←
وحين تقلع الطائرة من شرق الأرض الى غربها... من وطن الصحو الى عاصمة الضباب، يكون دفء الشمس المتسلل عبر نافذة الطائرة والذي سأودعه هو الآخر كما ودعت وطني، دفءً ذا مغزى.
استوت الطائرة في كبد السماء واستقرت في طيرانها هادئة ناعمة كما لو كانت ثابتة فوق قطب مركزي راسخ، فقررت أن أستثمر الوقت بقراءة بعض سور من القرآن الكريم في مصحف صغيركان معي، وكانت تلك عادة اعتدت عليها منذ صباي، فقد فتحت عينيّ على جدي في بيتنا الكبير في النجف الأشرف وهو يقرأ القرآن صباح كل يوم، وبعد الظهر، وعند المساء، وحين السفر، وفي أوقات أخرى، ووعيت على أبي وهو يحمل في جيبه قرآناً لا يكاد يفارقه في حلّه وترحاله. فتحت المصحف الكريم وبدأت أرتل بصوت خفيض خاشع آيات من الذكر الحكيم، لأغسل روحي ورئتي ودمي، ولأطيّب فمي من أدران المادة ومغرياتها، ولأستعين بالله عزّ وجلّ كي يحفظ ويسلم ويرعى هذه الكتلة الحديدية المعلقة بين السماء والأرض من عوادي الزمن وصروفه.
إنتصف النهار أو كاد وأزف وقت صلاة الظهر، فنهضت من مقعدي وتوجهت نحو الحمام، فجددت وضوئي، ثم أخرجت مشطاً من جيبي فأعدت تصفيف شعري ثانية بعد الوضوء، ثم أخرجت قنينة عطر صغيرة اعتدت أن أحملها في جيبي باستمرار لأتعطّر، ذلك أني قرأت أن العطر مستحب، وأن النبي محمداً (ص) كان يحبه، وأن صلاة المتعطر تعدل سبعين صلاة.
ولّما انتهيت من الوضوء والتمشيط والتطّيب فتحت باب الحمام وخرجت عائداً لمكاني.
جلست على المقعد وأنا أرتّل بعض آيات من القرآن الكريم كنت حفظتها من طفولتي، ثم أخذت أفكر.
أين سأصلي؟ وكيف سأعرف اتجاه القبلة؟ وهل يجب عليّ أن أصلي قائما أو جالساً؟
وإذ داهمني هذا الخاطر أعدت استرجاع معلوماتي الشرعية، فتذكرت قول الفقهاء: بأنه يجب عليّ الصلاة قائماً ما دمت أقدر على ذلك، فإن عجزت عن أداء صلاتي قائماً، صلّيتها من جلوس، وهكذا أنتقل بالحكم الى الأدنى فالأدنى، وأنزل درجة درجة حسب القدرة والاستطاعة، لأن الصلاة لا تسقط عن المسلم بحال.
وحين وصلت الى هذه النتيجة، أجلت نظري في الطائرة لأتفحص وجود مكان يمكنني أن أصلي فيه وأنا قائم، فوقع بصري على مكان صغير في أحد جوانب الطائرة كاف لأداء الصلاة، فقلت في نفسي: لقد تهيأ المكان، بقي علي أن أعرف اتجاه القبلة ما دامت الطائرة مستقرة الآن أو شبه واقفة. فقررت أن أستعين بطاقم الطائرة لأعرف منه اتجاه القبلة.
مرّ المضيف ليرفع أكواب الشاي من على المناضد الصغيرة المفتوحة، أمام مقاعد المسافرين، فاستثمرت الفرصة لأسأله بلغة إنكليزية ركيكة، قائلاً له:
ـ أتسمح لي بسؤال.
ـ نعم تفضل.
ـ هل يمكنك أن تساعدني فترشدني الى اتجاه القبلة؟
ـ آسف لم أفهم ما تريد.
ـ إتجاه القبلة.... إتجاه مكة المكرمة.
ـ هل أنت مسلم؟
ـ نعم، وأريد أن أصلي صلاة الظهر.
ـ دعني أسأل غرفة القيادة وأعود في الحال.
ذهب المضيف ليسأل غرفة القيادة، فتذكرت أني يجب أن أسأله عن شيء ما أضعه على أرضية الطائرة وأصلي عليه. وحين عاد ومعه جواب لسؤالي عن القبلة، استأذنته أن يحضر لي شيئاً ما أصلي عليه، قطعة قماش، جريدة مثلاً.
فأحضر لي شرشفاً فرشته على أرضية الطائرة وصليت صلاة الظهر، ثم صلاة العصر، ركعتين ركعتين، قصراً متوجهاً الى القبلة، ثم سبّحت تسبيح الزهراء (ع)؛ فكبرت ألله أربعاً وثلاثين مرة، ثم حمدته ثلاثاً وثلاثين مرة، ثم سبّحته ثلاثاً وثلاثين مرة، وحين انتهيت من تسبيح الزهراء، شكرت الله، وعدت ثانية لمقعدي وأنا بشعور آخر وقناعة أخرى، فقد كنت أظن أن الصلاة في الطائرة متعبة، وأنها ربما ستحرجني أمام أعين النظار، غير أني كنت مخطئاً. فقد تبيّن لي أن الصلاة تكسبني أحتراماً خاصاً، وتضفي عليّ هيبة محبّبة لحظتها واضحة حتى في أعين غير المسلمين ممن كانوا معي على متن الطائرة، بما في ذلك طاقم الطائرة نفسه.
وبينما كنت مستغرقاً في تأملاتي، إذ قطع عليَّ صوت المذيع تسلسل أفكاري معلناً بدء تقديم وجبة الغداء. توزعت على الفور مضيفات الطائرة يسألن الركاب ما إذا كانوا يفضّلون نوعاً معيناً مما تضمنته قائمة الطائرة من الطعام.
وجاء دوري فسألتني إحداهن عما إذا كنت أفضل أن يكون طبقي الرئيسي سمكاً أو دجاجاً.. ولما تبيّن لي أن السمك ذو قشر، اخترت السمك، ليس لأن السمك أحبُّ إليَّ ذلك اليوم من الدجاج، ولكن لأن الدجاج لا يحق لي أكله، لأني سآخذه من يد غير المسلم، وأنا غير متأكد من أنه مذكى أو مذبوح وفق قواعد الذباحة في الشريعة الإسلامية، وتلك مشكلة ستواجهني كثيراً في بلاد الغربة.
لقد ولدت في بلد إسلامي، ونشأت وترعرعت وكبرت فيه، وكنت كلما شككت في صحة ذباحة البقر أو الغنم أو الدجاج وأشباهها، أو ترددت في حليّة أكلي للسمك الذي أشتريته من سوق مدينتي المسلمة، مضيت غير معتنٍ بذلك الشك، ولا ملتفت لذلك التردد، فأكلت مرتاح البال، هادئ الخاطر، طيب النفس.
أما في بلدي الغربي هذه المرة فالأمر مختلف تماماً، ذلك أنه لا يحق لي أن آكل أي لحم يبيعه بائع غير مسلم حتى أتأكد من أنه مذكى أو مذبوح وفق قواعد الذباحة في الشريعة الإسلامية المقدسة. وتلك مسألة لا تخلو من صعوبة عادة.
أحضرت المضيفة الطعام.. وكانت وجبة شهية تلك الوجبة التي وضعت أمامي:
طبق من السمك مقلي بزيت عباد الشمس، محاط بقطع من البطاطا المحمّرة مع قليل من الرز والسلطة والخضار، وجبتان من الزيتون الأخضر، وعدة حبات من العنب، وتينة سوداء، وقطعة حلويات، وكأس ماء مختوم، مع أكياس صغيرة من الملح والسكر والبهارات، وقطعتان من الخبز، وشوكة، وملعقتان، وسكين، ومنشفة. وكنت جائعاً حقاً.
حمدت الله أولاً، ثم رفعت الشوكة فغرزتها في قلب قطعة السمك المقلي لأثبّتها بها، ثم قطّعتها بالسكين قطعاً متوسطة الحجم ليسهل عليّ أكلها ثم .. ثم تذكرت شيئاً ما وأنا أنهي تقطيع السمك فتوقفت:
ترى، إذا كان السمك ذا فلس وأخرج من الماء حياً أو مات في الشبكة بعد الصيد فيحق لي أكله، سواء اصطاده الكافر أم المسلم؟ وسواء أذكر عليه صائده اسم الله عزّ وجل فسمّى، أم لم يذكره فلم يسمّ؟ هذا صحيح، ولكن المشكلة في الزيت الذي قلي به هذا السمك.
ترى هل كان ذلك الزيت طاهراً؟
ثم هل أن الذي قلاّه كان مسلماً؟
لقد كان خاطراً غير مريح ذلك الخاطر الذي نبت في رأسي تلك الساعة، فأوقفني عن تناول تلك القطعة الشهية من ذلك السمك اللذيذ الساخن، وأنا جائع. وضعت الشوكة المحمّلة بقطعة السمك على طرف الإناء، وحاولت إعادة استرجاع معلوماتي التي قرأتها عن هذه المسألة في الرسالة العملية لمقلّدي وأنا أستعد للسفر.
فسألت نفسي عن زيت عباد الشمس، هل هو طاهر؟ وأجبت على الفور بنعم؛ لأن الحكم الشرعي يقول «كل شيء لك طاهر حتى تعلم بنجاسته» ولما كنت لا أعلم بنجاسة الزيت، فالزيت إذاً طاهر. هذا أولاً.
ولما كان الزيت طاهراً وقُلي به السمك الطاهر، فسيكون الكل طاهراً، ويحق لي أكله، ثانياً. أما أن الذي قلى السمك الطاهر، بالزيت الطاهر، هل هو مسلم أو من أهل الكتاب فهو طاهر، أو هو غير مسلم ولا كتابي، فذلك لا يهم، ما دمت لا أعلم أن الذي قلاه قد مسه بيده.
وعودة أخرى الى الحكم الشرعي السابق: « كل شيء لك طاهر حتى تعلم بنجاسته» تعطينا نتيجة واضحة، وهي أن السمك طاهر، ويحق لي أكله. وحين وصلت الى هذه النتيجة تنفست الصعداء واسترحت، ثم عدت فحملت الشوكة وسمكتها المغروزة بها فأكلتها.. ثم انعطفت على البطاطة المقلية بالزيت ـ والتي لا أعلم بنجاستها كذلك فهي طاهرة ـ وأكلتها.
وكذلك فعلت بالخبز والسلطة والفاكهة والحلويات.. أكلتها كلها فهي طاهرة.. وشربت بعدها كوب الماء وكوب الشاي فهما طاهران كذلك. هكذا يقول لي الحكم الشرعي. ثم حمدت الله عزوجل وشكرته على نعمه وآلائه وانتهيت.
بعد وجبة الغداء والشاي، أغمضت عينيّ قليلاً لأستريح، ثم فتحتها وأدرت رأسي صوب نافذة الطائرة. نظرت الى أعلى فاحتوتني زرقة السماء وشفافيتها ثم نظرت الى أسفل فحفّت بي زرقة البحر، كنت مطوقاً بالزرقة من كل مكان، عائماً وسطها، سابحاً في فضاء بهيج لا متناه. كانت الطائرة تحلق على ارتفاع ثلاثين ألف قدم فوق مستوى سطح البحر، وكان أمامنا أكثر من ساعتين ونصف الساعة حتى نصل الى مطار هيثرو (Heathrow) الدولي بلندن.
أجلت نظري داخل الطائرة: كان بعض الركاب منهمكاً بقراءة صحف الصباح التي وضعتها المضيفات أمامهم ليقطعوا بها ما تبقى من وقت الرحلة، بينما غطّ بعضهم في نوم عميق. مددت يدي بتثاقل فتناولت صحيفة الصباح. كانت العناوين الرئيسية المكتوبة بحروف حمراء وسوداء كبيرة لتلفت نظر القارئ تمرُّ عليها عيناي دون تركيز، بينما راحت ذاكرتي تسترجع السؤال الذي شغلها باستمرار طوال الأيام القليلة الماضية:
كيف سأحافظ على هويتي الدينية الثقافية من الاستلاب في بلد الغربة؟
لقد أرّقني هذا الهمُّ طويلاً منذ فكرت بالسفر الى أوروبا، وزاد فعّرش في قلبي يوم عزمت عليه، ولا زال هو عينه، شغلي الشاغل في كل آن، أستدعيه حيناً، ويحضر من دون استدعاء أحياناً، يغفو معي على مخدّة المساء عند النوم، ويستيقظ معي ساعة أستيقظ في الصباح.
ضغط عليّ مرة لأقصد صديقاً سافر قبلي الى لندن وعاد، فأشار صديقي عليّ بعدة أمور. وقادني الى المكتبة مرة أخرى، ففتح عيني كتاب ضمته رفوفها على عدة قضايا تضعني في الجو العام لما يجب عليّ أن أفعله. لقد أكّد عليّ كلاهما أن آخذ في اعتباري مسألة بالغة الأهمية مفادها (أن الهجرة لا تنحصر سلبياتها في إمكانية ضياع الحكم الشرعي فقط عند المهاجرين، أو عدم تفقههم في الدين، بل أن الأمر يتعدى إلى ما هو أسوأ من ذلك، إذ يمكن أن تترتب على هذه الهجرة آثار خطيرة تظهر بشكل واضح في تربية الانسان المسلم وعاداته وتقاليده ونمط حياته الفكرية والأخلاقية والاجتماعية).
وزاد كاتب الكتاب فذكر (أن على المسلم الذي يضطر للهجرة الى بلاد الكفر أن يوجد بنفسه المناخ الديني المفقود في تلك البلاد، صحيح أنه لا يستطيع إيجاد الجو العام، ولكن باستطاعته أن يخلق هذا الجو الخاص فيكيف ذاته وفق مناخه الديني الذي ينسجم معه.
إن تهيئة الجو الملائم ذي الطابع الإسلامي يشبه الى حد ما عملية التطعيم ضد مرض لا يستطيع الفرار منه، فيحاول تدارك خطره من خلال المضادات التي يخلقها بنفسه.
إننا في الوقت الذي لا ندعي سهولة ذلك، وحلّ هذه المسألة ببساطة تنظيرية، إلا أننا في ذات الوقت لا يمكننا التقليل من أهمية خسارة المؤمن لالتزامه الديني الذي هو أساس مهم في تكوين شخصيته، فينبغي إذاً المحافظة عليه ولو كان ذلك يتوقف على الخسارة في أي جانب من حياته.
إننا بالمقدار الذي نشدد على خطورة تلك الآثار نشدّد أيضاً على أهمية صيانة المؤمن من الوقوع فيها وإنقاذه منها.
إن المؤمن الذي سعى لتلك البلاد لتأمين مستقبله الدنيوي ـ العلمي أو الاقتصادي أو غيرهما ـ لا يجوز له أن يخسر مستقبله الأخروي في سبيل ذلك، تماماً كأي تاجر لا ينبغي له أن يخسر شرفه أو حياته في مقابل حفنة من المال قلّت أو كثرت. إذ ما قيمة هذه في مقابل تلك، وهكذا الحال في المريض الذي تحمّل مرارة الدواء أو حرارة الكيّ لكي لا يستمر المرض فيؤدي الى الوفاة.
أذن لابد للمؤمن وهو يعيش في هذا الجو الموبوء أن يحصّن نفسه ضد عوارضه ومخاطره ولا بد له أن يخلق الأجواء الدينية المناسبة له والتي تعوّضه عن خسارته للأجواء التي كان يتمتع بها في بلده) هو وعائلته وأولاده بل وحتى إخوانه في الدين عملاً بقوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ) والتزاماً بقوله عز من قائل (المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) و قوله (ص) (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) وتطبيقاً لأحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ويتم ذلك التحصين من خلال أمور منها:
1. الالتزام بتلاوة بعض سور أو آيات كريمة من كتاب الله العزيز كل يوم قدر الامكان، أو الانصات الى مقرئيها بخشوع وتدبر وتفكّر، ففيها ( بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون، وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وانصتوا لعلكم ترحمون) ذلك أنه (ما جالس هذا القرآن أحد إلاّ قام عنه بزيادة أو نقصان: زيادة في هدى، أو نقصان من عمى، واعلموا أنه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة، ولا لأحد بعد القرآن من غنى، فاستشفوه من أدوائكم، واستعينوا به على لأوائكم فإن فيه شفاءً من أكبر الداء وهو الكفر والنفاق والغي والضلال فاسألوا الله به وتوجّهوا اليه بحبه ولا تسألوا به خلقه إنه ما توجه العباد إلى الله بمثله، واعلموا أنه شافع مشفع وقائل مصدّق وأنه من شفع له القرآن يوم القيامة شُفّع فيه) وأنه (من قرأ القرآن وهو شاب مؤمن اختلط القرآن بلحمه ودمه وجعله الله عز وجل من السفرة الكرام البررة وكان القرآن حجيزاً عنه يوم القيامة). وهناك بعض المصاحف المفسرة الموجزة التي يسهل حملها ويكثر نفعها في الغربة.
2. الالتزام بأداء الصلوات الوجبة في أوقاتها، بل وغير الواجبة كلما أمكن ذلك فقد ورد عن النبي محمد (ص) أنه قال لعبد الله بن رواحة في وصيته له حين خرج لحرب مؤتة «إنك قادم بلداً السجود فيه قليل فأكثروا السجود».
وروى زيد الشحام « عن أبي عبدالله (ع) قال: سمعته يقول: أحبُّ الأعمال الى الله عزوجل الصلاة، وهي آخر وصايا الأنبياء».
كما أوصانا الإمام علي (ع) بالصلاة قائلاً «تعاهدوا أمر الصلاة وحافضوا عليها واستكثروا منها وتقربوا بها فانها (كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا) ألا تسمعون إلى جواب أهل النار حين سئلوا(ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين)وأنها لتحتّ الذنوب حتّ الورق وتطلقها إطلاق الربق، وشبّهها رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بالحمّة تكون على باب الرجل فهو يغتسل منها في اليوم والليلة خمس مرات فما عسى أن يبقى عليه من الدرن».
3. قراءة ما تيسر من الأدعية والمناجاة والاذكار، فهي مذكّرة بالذنوب حاثّة على التوبة، داعية إلى اجتناب السيئات والتزود بالحسنات أمثال أدعية الصحيفة السجادية للإمام زين العابدين (ع)، ودعاء كميل بن زياد، وأدعية شهر رمضان كدعاء أبي حمزة الثمالي وأدعية السحر، وأدعية أيام الأسبوع، وغيرها كثير. إن هذا التطهر يحتاج إليه كل مسلم وبخاصة إذا كان في بلد غير أسلامي.
4. كثرة التردد على المراكز والمؤسسات الإسلامية التي تحيي الأعياد والمناسبات الدينية والمواليد والمآتم وبقية المناسبات الدينية الأخرى بالوعظ والارشاد والتوجية، سواء أكان في شهر رمضان الكريم أم في شهري محرم وصفر أم في غيرهما من الشهور والأيام والأوقات الأخرى. ثم المبادرة الى إحياء هذه المناسبات داخل البيوت في البلدان التي تفتقر الى وجود مثل هذه المراكز والمؤسسات الهادفة.
5. حضور الندوات والمؤتمرات الإسلامية التي تقام في بلدان المهجر والمشاركة فيها.
6. قراءة الكتب والمجلات والصحف الإسلامية للاستفادة منها، وإثرائها بالنافع والممتع معاً في آن واحد.
7. الاستماع الى أشرطة التسجيل المختلفة المتضمنة لمحاضرات إسلامية نافعة سهر على إعدادها أساتذة أفاضل وخطباء كبار فإن فيها موعظة وتذكيراً.
8. إجتناب أماكن اللهو والفساد بما في ذلك مشاهدة البرامج التلفزيونية السيئة والقنوات الخاصة ببعض ما لا يتلائم مع عقيدتنا وديننا وقيمنا وأعرافنا وتقاليدنا وتراثنا الفكري والحضاري الإسلامي.
9. إتخاذ أصدقاء صالحين في الله، يرشدهم ويرشدونه، ويقوّمهم ويقوّمونه، ويقضي معهم أوقات الفراغ بالمفيد، ويتخلص بهم من قرناء السوء، ومن العزلة وسلبياتها، فقد روى الإمام الصادق (ع) عن آبائه عليهم السلام قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث، ما استفاد امرؤ مسلم فائدة بعد الاسلام مثل أخ يستفيده في الله» ، وقال ميسرة: قال لي الإمام أبو جعفر الصادق (ع) «أتخلون وتتحدثون وتقولون ما شئتم؟ فقلت: أي والله إنا لنخلو ونتحدث، ونقول ما شئنا فقال: أما والله لوددت أني معكم في بعض تلك المواطن، أما والله إني لأحب ريحكم وأرواحكم وأنكم على دين الله ودين ملائكته فأعينوا بورع واجتهاد».
10. محاسبة الانسان نفسه كل يوم، أو كل أسبوع، عمّا فعله، فإن كان خيراً شكر الله على ذلك واستزاد منه، وإن كان شراً استغفر وتاب عنه، وعزم أن لا يعود اليه كرة أخرى، فقد أوصى النبي الكريم محمد (ص) أبا ذر بذلك قائلاً له «يا أبا ذر حاسب نفسك قبل أن تحاسب، فإنه أهون لحسابك غداً، وزن نفسك قبل أن توزن، وتجهّز للعرض الأكبر يوم تعرض لا تخفى على الله خافية... يا أبا ذر لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك شريكه فيعلم من أين مشربه وملبسه أمن حلال أو من حرام» ، وقال الإمام الكاظم (ع) «ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل حسنة استزاد الله تعالى، وإن عمل سيئة استغفر الله منها وتاب اليه».
11. الاهتمام باللغة العربية لغة القرآن الكريم ولغة العديد من مصادر أحكام وآداب الشريعة الإسلامية إضافة لكونها لغة الآباء والأجداد بالنسبة للناطقين بها من المسلمين، مع التركيز على الأبناء الذين يجب أن لا يتحدث معهم الأهل إلاّ بها، وإذا كان الطلاب يتعلمون في هذه البلدان أكثر من لغة أجنبية، فمن الجدير بهم أن يتعلموا لغة القرآن الكريم ليتواصلوا بها مع دينهم وتراثهم وقيمهم وتأريخهم وحضارتهم.
12. الاهتمام بالجيل الجديد من خلال تربية الأولاد من الجنسين على حبّ كتاب الله وتلاوته بواسطة المسابقات والفعاليات المشوّقة الأخرى، وترويضهم على أداء العبادات والتحلي بمكارم الأخلاق كالصدق والشجاعة والوفاء بالوعد وحبّ الآخرين ثم اصطحابهم الى المؤسسات والمراكز الإسلامية لتعويدهم على ارتيادها، وتعريفهم بأعداء الاسلام، وتركيز روح الأخوة الإسلامية فيهم، والأخذ بيدهم للمشاركة في إحياء المناسبات والأعياد الإسلامية، تربية حبّ العمل والجدّ فيهم وغير ذلك، مما يعينهم على فهم أفضل للاسلام وسلوك أفضل وفق قيمه ومبادئه في هذه الحياة.
أوقفتُ عند هذه النقطة انسيابية التأمل، ونظرت الى السماء، فأدهشتني تشكيلات من سحب بيضاء راحت تتجمع من هنا وهناك كأنها قطن مندوف يوضع بعناية على أرضية من مخمل زرقاء. استهواني المنظر فاستغرقت فيه حتى امتليت.
كانت قطعان السحب المبثوثة تتجمع شيئاً فشيئاً متآلفة أو متعانقة أو مُتّحدة، متخلّية عن خصوصياتها الذاتية، مشرعة نوافذها للآخر، مستجيبة له، ذائبة فيه أو فانية. عاودني الخاطر المؤرق مرة آخرى فسألت نفسي:
كيف يجب عليَّ أن أسلك في بلاد الغربة فأحتفظ بخصوصياتي الذاتية دون أن أفنى في ثقافة الآخرين أو أذوب، ودون أن أنغلق على نفسي فأتقوقع؟ ثم سألتها: ترى كيف سيحكم عليّ الآخرون ممن سوف أعيش بين ظهرانيهم؟
لقد عودتني مدينتي المكتظة بالزائرين والسياح على مدار العام أن أحكم على سلوك شعب من خلال سلوك أبنائه، أو دين من خلال تصرفات معتنقيه، فإذا أحسن المعاملة زائر من بلد ما، قلت: إن سكان ذلك البلد طيبون، وإذا أساء التصرف سائح ما، قلت: إن سكان ذلك البلد سيئون وهكذا.
وطبيعي أن سكان بلاد الغربة حيث أسكن سيحكمون على الاسلام من خلال سلوكي أنا المسلم وسيعممون حكمهم ذاك على المسلمين. فإذا صدقتُ في القول والفعل، ووفيت بالوعد، وأديت الأمانة، وحسّنت خلقي، وطبقت قوانين النظام العام، وأعنت المحتاجين، وعاملت جاري باحسان، وتأسيت بالنبي محمد (ص) في سلوك، وطبقت تعاليمه القائلة بأن (الدين المعاملة). إذا فعلت ذلك كلّه قال من يتعامل معي من غير المسلمين: بأن الاسلام دين مكارم الأخلاق.
وإذا كذبت، وأخلفت الوعد، وأوحش خلقي من حولي، وأخللت بالنظام العام، وأسأت لجاري، وغششت في المعاملة، وخنت الأمانة، ونحو ذلك قال المتعاملون معي: بأن الاسلام دين لا يعلّم أتباعه مكارم الأخلاق.
قطع عليَّ قائد الطائرة سلسلة أفكاري، فأعلن عن أننا الآن نسير فوق الأراضي الألمانية متوجهين نحو لندن. مددت يدي صوت حقيبتي، فأخرجت منها كتاباً كنت جلبته لأستعين به، فاستوقفتني روايات خمس وردت عن الإمام الصادق (ع).
يقول في الأولى مخاطباً أتباعه وشيعته: «كونوا لنا زيناً ولا تكونوا علينا شيناً، حبّبونا الى الناس ولا تبغّضونا اليهم».
وينقل في الثانية عن أبيه (ع) قوله: « كونوا من السابقين بالخيرات وكونوا ورقاً لا شوك فيه، فإن من كان قبلكم كانوا ورقاً لا شوك فيه وقد خفت أن تكونوا شوكاً لا ورق فيه، وكونوا دعاة إلى ربكم وأدخلوا الناس في الاسلام ولا تخرجوهم منه وكذلك من كان قبلكم يدخلونهم في الاسلام ولا يخرجونهم منه».
ويقول (ع) في الثالثة بعد أن يبعث بسلامه الى من يأخذ بقوله من شيعته «أوصيكم بتقوى الله عز وجل، والورع في دينكم، والاجتهاد لله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد (صلى الله عليه وآله) أدّوا الأمانة الى من ائتمنكم عليها براً أو فاجراً، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يأمر بأداء الخيط والمخيط، صلوا عشائركم واشهدوا جنائزكم وعودوا مرضاكم وأدّوا حقوقهم، فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق في الحديث، وأدى الأمانة، وحسن خلقه مع الناس، قيل هذا جعفري فيسرني ذلك، ويدخل عليَّ منه السرور، وقيل هذا أدب جعفر، وإذا كان على غير ذلك، دخل عليّ بلاؤه وعاره، وقيل هذا أدب جعفر، والله لقد حدثني أبي عليه السلام، أن الرجل كان يكون في القبيلة من شيعة علي (ع) فيكون زينها: أأداهم للأمانة، وأقضاهم للحقوق، وأصدقهم للحديث، إليه وصاياهم وودائعهم، تسأل العشيرة عنه، فتقول من مثل فلان، إنه أأدانا للأمانة وأصدقنا للحديث».
ويقول في الرابعة «عليكم بالصلاة في المساجد، وحسن الجوار للناس، وإقامة الشهادة، وحضور الجنائز، وإنه لا بدّ لكم من الناس، إنّ أحداً لا يستغني عن الناس حياته، والناس لا بدّ لبعضهم من بعض».
ويجيب (ع) في الخامسة معاوية بن وهب عن سؤال له، يقول معاوية : « قلت له : كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا وبين خلطائنا من الناس ممن ليسوا على أمرنا ؟ فقال تنطرون الى أئمتكم الذين تقتدون بهم فتصنعون ما يصنعون ، فوالله إنهم ليعودون مرضاهم ، ويشهدون جنائزهم ، ويقيمون الشهادة لهم وعليهم ، ويؤدون الأمانة اليهم».
وما أن انتهيت من قراءة هذه الأحاديث حتى استرحت، لقد خفّف عني كثيراً حديث الإمام الصادق (ع) هذا ووصيته لشيعته وأتباعه، فقد رسم لي (ع) طريق عمل، وحدّد لي قواعد سلوك، فإذا ضممت اليها قراري بأن أدوّن في دفتر ملاحظاتي أهم المسائل الشرعية التي ستعترضني في بلاد الغربة، مستعيناً بما في جعبتي من كتب فقهية، فإذا جدّت إشكاليات جديدة لم أجل لها حلاً فيما معي كاتبت الفقيه أستفتيه ليجيبني عنها، إذا ضممت اليها ذلك، فسأكون قد عالجت مشكلتي ومشكلة المهاجرين الآخرين معي بشقيها الأخلاقي والفقهي. هكذا بدأت أكتب مسائلي الشرعية مسألة مسألة، وأستفتي الفقيه حول ما تعذّر عليّ تحصيل جوابه من رسالته العملية مسألة مسألة، وشيئاً فشيئاً كان هذا الكتاب.
وقد تقاسم الكتاب بابان: باب لفقه العبادات، وباب لفقه المعاملات، وثلاثة ملاحق.
ضم الباب الأول الخاص بفقه المعبادات فصولاً سبعة، قدّرت أنها تهمّ المغترب أكثر من غيرها، وهي: الاغتراب والهجرة والدخول الى البلدان غير الإسلامية، والتقليد، والطهارة، والنجاسة، والصلاة، والصوم، والحج، وشؤون الميت. يعرض كل فصل منها لمقدمة حوله، ويتناول بعض أحكامه مما يكثر الاحتياج اليها في بلد الغربة، ويستعرض أهمّ الاستفتاءات الخاصة به.
وتناول الباب الثاني الخاص بفقه المعاملات أحد عشر فصلاً هي على التوالي: المأكولات والمشروبات، والملابس، والتعامل مع قوانين النافذة في دول المهجر، والعمل وحركة رأس المال، والعلاقات الاجتماعية، والشؤون الطبية، وشؤون النساء، وشؤون الشباب، وأحكام الموسيقى والغناء والرقص، وفصل للمتفرقات. يعرض كل فصل منها لمقدمة حوله، ويعرّف ببعض أحكامه، ويشير لأهم الاستفتاءات الخاصة به.
كما ضم الكتاب ثلاثة ملاحق، عرض الملحق الأول لنماذج من استفتاءات الكتاب وأجوبة سماحة سيدنا ( دام ظله ) عنها. وعرض الملحق الثاني للائحة بمواد أساسية تدخل كثيراً في صناعة الأغذية يحرم على المسلم تناولها. وسرد الملحق الثالث قائمة بأسماء وصور بعض الأسماك من ذوات الفلس التي يحل أكلها للمسلم. وختم الكتاب بخاتمة، أعقبتها قائمة ضمت المصادر والمراجع، ثم الفهرست التفصيلي للكتاب.