الكتب الفتوائية » المسائل المنتخبة - (الطبعة الجديدة المنقحة)
البحث في:
الواجبات والمحرمات ←
→ المقدّمة
الاجتهاد والتقليد » التقليد وأقسام الاحتياط
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين.
وبعد:
الاجتهاد والتقليد
يجب على كلّ مكلّف أن يحرز امتثال التكاليف الإلزاميّة الموجّهة إليه في الشريعة المقدّسة، ويتحقّق ذلك بأحد أمور: اليقين التفصيلي، الاجتهاد، التقليد، الاحتياط.
وبما أن موارد اليقين التفصيلي في الغالب تنحصر في الضروريات فلا مناص للمكلّف في إحراز الامتثال فيما عداها من الأخذ بأحد الثلاثة الأخيرة.
الاجتهاد وهو: استنباط الحكم الشرعي من مداركه المقرّرة.
التقليد: ويكفي فيه تطابق عمل المكلّف مع فتوى المجتهد الذي يكون قوله حجّة في حقّه فعلاً مع إحراز مطابقته لها.
والمقلِّد قسمان:
1- من ليست له أيّة معرفة بمدارك الأحكام الشرعيّة.
2- من له حظّ من العلم بها ومع ذلك لا يقدر على الاستنباط.
الاحتياط وهو: العمل الذي يتيقّن معه ببراءة الذمّة من الواقع المجهول، وهذا هو الاحتياط المطلق، ويقابله الاحتياط النسبي، كالاحتياط بين فتاوى مجتهدين يُعلم إجمالاً بأعلميّة أحدهم، وسيجيء في المسألة (18).
والاجتهاد واجب كفائي، فإذا تصدى له من يكتفى به سقط التكليف عن الباقين، وإذا تركه الجميع استحقّوا العقاب جميعاً.
وقد يتعذّر العمل بالاحتياط على بعض المكلّفين، وقد لا يسعه تمييز موارده - كما ستعرف ذلك -، وعلى هذا فوظيفة من لا يتمكّن من الاستنباط هو التقليد، إلّا إذا كان واجداً لشروط العمل بالاحتياط فيتخيّر - حينئذٍ - بين التقليد والعمل بالاحتياط.
(مسألة 1): المجتهد: مطلق ومتجزّئ.
المجتهد المطلق هو: الذي يتمكّن من الاستنباط في جميع أنواع الفروع الفقهيّة.
المجتهد المتجّزئ هو: القادر على استنباط الحكم الشرعي في بعضها دون بعض.
فالمجتهد المطلق يلزمه العمل باجتهاده أو أن يعمل بالاحتياط، وكذلك المتجزّئ بالنسبة إلى الموارد التي يتمكّن فيها من الاستنباط، وأمّا فيما لا يتمكّن فيه من الاستنباط فحكمه حكم غير المجتهد، فيتخيّر فيه بين التقليد والعمل بالاحتياط.
(مسألة 2): المسائل التي يمكن أن يبتلى بها المكلّف عادة - كجملة من مسائل الشكّ والسهو - يجب عليه أن يتعلّم أحكامها، إلّا إذا أحرز من نفسه عدم الابتلاء بها.
(مسألة 3): عمل غير المجتهد بلا تقليد ولا احتياط باطل، بمعنى أنّه لا يجوز له الاجتزاء به، إلّا إذا أحرز موافقته لفتوى من يجب عليه تقليده فعلاً، أو ما هو بحكم العلم بالموافقة، كما سيتضح بعض موارده من المسألة (5).
(مسألة 4): المقلِّد يمكنه تحصيل فتوى المجتهد الذي قلده بأحد طرق ثلاثة:
1- أن يسمع حكم المسألة من المجتهد نفسه.
2- أن يخبره بفتوى المجتهد عادلان أو شخص يثق بنقله.
3- أن يرجع إلى الرسالة العمليّة التي فيها فتوى المجتهد مع الاطمئنان بصحتها.
(مسألة 5): إذا مات المجتهد وبقي المكلّف على تقليده مدّة بعد وفاته من دون أن يقلّد الحيّ في ذلك غفلة عن عدم جواز ذلك ثُمَّ رجع إلى الحيّ، فإن جاز له - بحسب فتوى الحيّ - البقاء على تقليد المتوفى صحّت أعماله التي أتى بها خلال تلك المدّة مطلقاً، وإلّا رجع في الاجتزاء بها إلى الحيّ، فإن عرف كيفيّتها ووجدها مطابقة لفتاوى الحيّ حكم بصحّتها، بل يحكم بالصحّة في بعض موارد المخالفة أيضاً، وذلك فيما إذا كانت المخالفة مغتفرة حينما تصدر لعذر شرعي، كما إذا اكتفى المقلِّد بتسبيحة واحدة في صلاته حسب ما كان يفتي به المجتهد المتوفّى ولكنّ المجتهد الحيّ يفتي بلزوم الثلاث، ففي هذه الصورة يحكم أيضاً بصحّة صلاته. وإذا لم يعرف كيفيّة أعماله السابقة بنى على صحّتها - أيضاً - إلّا في موارد خاصّة لا يناسب المقام تفصيلها.
(مسألة 6): يجوز العمل بالاحتياط، سواء استلزم التكرار أم لا.
الاحتياط قد يقتضي العمل، وقد يقتضي الترك، وقد يقتضي الجمع بين أمرين مع التكرار، أو بدونه.
أمّا الأوّل: ففي ما إذا تردّد حكم فعل بين الوجوب وغير الحرمة، والاحتياط - حينئذٍ - يقتضي الإتيان به.
وأمّا الثاني: ففي ما إذا تردّد حكم فعل بين الحرمة وغير الوجوب، والاحتياط فيه يقتضي الترك.
وأمّا الثالث: ففي ما إذا تردّد الواجب بين فعلين، كما إذا لم يعلم المكلّف في مكان خاصّ أن وظيفته الإتمام في الصلاة أو القصر فيها، فإنّ الاحتياط يقتضي - حينئذٍ - أن يأتي بها مرّة قصراً ومرّة تماماً.
وأمّا الرابع: ففي ما إذا علم إجمالاً بحرمة شيء أو وجوب شيء آخر، فإنّ الاحتياط يقتضي في مثله أن يترك الأوّل ويأتي بالثاني.
(مسألة 7): كلّ مورد لا يتمكّن المكلّف فيه من الاحتياط يتعيّن عليه الاجتهاد أو التقليد، كما إذا تردّد مال شخصي بين صغيرين أو مجنونين أو صغير ومجنون، فإنّه قد يتعذّر الاحتياط في مثل ذلك فلا بُدَّ - حينئذٍ - من الاجتهاد أو التقليد.
(مسألة 8): قد لا يسع المكلّف أن يميّز ما يقتضيه الاحتياط التّام، مثال ذلك: أنّ الفقهاء قد اختلفوا في جواز الوضوء والغسل بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر، فالاحتياط يقتضي ترك ذلك، إلّا أنّه إذا لم يكن عند المكلّف غير هذا الماء فالاحتياط يقتضي أن يتوضّأ أو يغتسل به، ويتيمّم أيضاً إذا أمكنه التيمّم. فإذا عرف المكلّف كيفيّة الاحتياط التامّ في مثل ذلك كفاه العمل على وفقه.
وقد يعارض الاحتياطُ من جهةٍ الاحتياطَ من جهةٍ أخرى فيتعذّر الاحتياط التامّ - وقد يعسر على المكلّف تشخيص ذلك - مثلاً: إذا تردّد عدد التسبيحة الواجبة في الصلاة بين الواحدة والثلاث، فالاحتياط يقتضي الإتيان بالثلاث، لكنّه إذا ضاق الوقت واستلزم هذا الاحتياط أن يقع مقدار من الصلاة خارج الوقت وهو خلاف الاحتياط، ففي مثل ذلك ينحصر الأمر في التقليد أو الاجتهاد.
(مسألة 9): إذا قلّد مجتهداً يفتي بحرمة العدول حتّى إلى المجتهد الأعلم وجب عليه أن يقلّد الأعلم في هذه المسألة، سواء أكان هو هذا المجتهد أم غيره. وكذا الحال فيما إذا أفتى بجواز تقليد غير الأعلم ابتداءً.
(مسألة 10): يصحّ تقليد الصبيّ المميّز، فإذا مات المجتهد الذي قلده الصبيّ قبل بلوغه كان حكمه حكم غيره - الآتي في المسألة (14) - إلّا في وجوب الاحتياط بين القولين قبل البلوغ.
(مسألة 11): يجوز تقليد من اجتمعت فيه أمور:
1- البلوغ.
2- العقل.
3- الرجولة.
4- الإيمان، بمعنى أن يكون اثني عشريّاً.
5- العدالة.
6- طهارة المولد
7- الضبط، بمعنى أن لا يقلّ ضبطه عن المتعارف.
8- الاجتهاد.
9- الحياة، على تفصيل سيأتي.
(مسألة 12): تقليد المجتهد الميّت قسمان: ابتدائي وبقائي.
التقليد الابتدائي هو: أن يقلّد المكلّف مجتهداً ميّتاً من دون أن يسبق منه تقليده حال حياته.
والتقليد البقائي هو: أن يقلّد مجتهداً معيّناً شطراً من حياته ويبقى على تقليد ذلك المجتهد بعد موته.
(مسألة 13): لا يجوز تقليد الميّت ابتداءً ولو كان أعلم من المجتهدين الأحياء.
(مسألة 14): يجوز البقاء على تقليد الميّت ما لم يعلم - ولو إجمالاً - بمخالفة فتواه لفتوى الحيّ في المسائل التي هو في معرض الابتلاء بها، وإلّا فإن كان الميّت أعلم وجب البقاء على تقليده، ومع كون الحيّ أعلم يجب الرجوع إليه. وإن تساويا في العلم أو لم يثبت أعلميّة أحدهما من الآخر فإن ثبت أنّ أحدهما أورع من الآخر - أي أكثر تثبتاً واحتياطاً في مقام الإفتاء - وجب تقليده، وإن لم يثبت ذلك أيضاً كان المكلّف مخيّراً في تطبيق عمله مع فتوى أيّ منهما ولا يلزمه الاحتياط بين قوليهما إلّا في خصوص المسائل التي تقترن بالعلم الإجمالي بحكم إلزامي ونحوه، كما إذا أفتى أحدهما بوجوب القصر والآخر بوجوب الإتمام فيجب عليه الجمع بينهما، أو أفتى أحدهما بصحّة معاوضة والآخر ببطلانها فإنّه يعلم بحرمة التصرّف في أحد العوضين فيجب عليه الاحتياط حينئذٍ.
ويكفي في البقاء على التقليد - وجوباً أو جوازاً - الالتزام بالعمل بفتوى المجتهد المعيّن، ولا يعتبر فيه تعلّم فتاواه أو العمل بها حال حياته.
(مسألة 15): لا يجوز العدول إلى الميّت ثانياً بعد العدول عنه إلى الحيّ والعمل مستنداً إلى فتواه، إلّا إذا ظهر أنّ العدول عنه لم يكن في محلّه، كما إذا عدل إلى الحيّ بعد وفاة مقلَّده الأعلم فمات أيضاً، فقلّد من يوجب البقاء على تقليد الأعلم فإنّه يلزمه العود إلى تقليد الأوّل.
(مسألة 16): الأعلم هو: الأقدر على استنباط الأحكام، وذلك بأن يكون أكثر إحاطة بالمدارك وبتطبيقاتها من غيره، بحيث يوجب صرف الريبة الحاصلة من العلم بالمخالفة إلى فتوى غيره.
(مسألة 17): يجب الرجوع في تعيين الأعلم إلى الثقة من أهل الخبرة والاستنباط المطّلع - ولو إجمالاً - على مستويات من هم في أطراف شبهة الأعلميّة في الأمور الدخيلة فيها، ولا يجوز الرجوع إلى من لا خبرة له بذلك.
(مسألة 18): إذا تعدّد المجتهد الجامع للشروط ففيه صورتان:
1- أن لا يعلم المكلّف الاختلاف بينهم في الفتوى في المسائل التي تكون في معرض ابتلائه، ففي هذه الصورة يجوز له تقليد أيّهم شاء وإن علم أن بعضهم أعلم من البعض الآخر.
2- أن يعلم - ولو إجمالاً - الاختلاف بينهم في المسائل التي تكون في معرض ابتلائه، وهنا عدّة صور:
الأولى: أن يثبت لديه أن أحدهم المعيّن أعلم من الباقين، وفي هذه الحالة يجب عليه تقليده.
الثانية: أن يثبت لديه أن اثنين - مثلاً - منهم أعلم من الباقين مع تساوي الاثنين في العلم، وحكم هذه الصورة ما تقدّم في المسألة (14) في صورة تساوي المجتهدَيْن المتوفى والحيّ.
الثالثة: أن يثبت لديه أن أحدهم أعلم من الباقين ولكن يتعذّر عليه تعيينه بشخصه بأن كان مردّداً بين اثنين منهم - مثلاً -، وفي هذه الحالة يلزمه رعاية الاحتياط بين قوليهما في موارد اختلافهما في الأحكام الإلزاميّة، سواء أكان الاختلاف في مسألة واحدة كما إذا أفتى أحدهما بوجوب الظهر والآخر بوجوب الجمعة - ولو مع احتمال الوجوب التخييري -، أم في مسألتين كما إذا أفتى أحدهما بالجواز في مسألة والآخر بالوجوب فيها وانعكس الأمر في مسألة أخرى. وأمّا إذا لم يكن كذلك فالظاهر عدم وجوب الاحتياط، كما إذا لم يعلم الاختلاف بينهما على هذا النحو إلّا في مسألة واحدة، أو علم به في أزيد منها مع كون المفتي بالوجوب - مثلاً - في الجميع واحداً.
هذا كلّه مع إمكان الاحتياط، وأمّا مع عدم إمكانه - سواء أكان ذلك من جهة دوران الأمر بين المحذورين، كما إذا أفتى أحدهما بوجوب عمل والآخر بحرمته، أم من جهة عدم اتّساع الوقت للعمل بالقولين - فاللازم أنّ يعمل على وفق فتوى من يكون احتمال أعلميّته أقوى من الآخر، ومع تساويه في حقّ كليهما يتخيّر في العمل على وفق فتوى من شاء منهما.
(مسألة 19): إذا لم يكن للأعلم فتوى في مسألة خاصّة أو لم يمكن للمقلِّد استعلامها حين الابتلاء جاز له الرجوع فيها إلى غيره مع رعاية الأعلم فالأعلم - على التفصيل المتقدّم -، بمعنى أنّه إذا لم يعلم الاختلاف في تلك الفتوى بين مجتهدين آخرين - وكان أحدهما أعلم من الآخر - جاز له الرجوع إلى أيّهما شاء، وإذا علم الاختلاف بينهما لم يجز الرجوع إلى غير الأعلم.
(مسألة 20): يثبت الاجتهاد أو الأعلمية بأحد أمور:
1- العلم الوجداني أو الاطمئنان الحاصل من المناشئ العقلائيّة كالاختبار ونحوه، وإنّما يتحقّق الاختبار فيما إذا كان المقلِّد قادراً على تشخيص ذلك.
2- شهادة عادلين بها، والعدالة هي: الاستقامة العمليّة في جادة الشريعة المقدّسة الناشئة غالباً عن خوف راسخ في النفس، وينافيها ترك واجب أو فعل حرام من دون مؤَمِّن.
ويعتبر في شهادة العدلين أن يكونا من أهل الخبرة، وأن لا يعارضها شهادة مثلها بالخلاف.
ولا يبعد ثبوتهما بشهادة من يثق به من أهل الخبرة وإن كان واحداً. ومع التعارض يؤخذ بقول من كان منهما أكثر خبرة بحدٍّ يوجب صرف الريبة الحاصلة من العلم بالمخالفة إلى قول غيره.
(مسألة 21): الاحتياط المذكور في هذه الرسالة قسمان: واجب ومستحب.
ونُعبّر عن الاحتياط الواجب بـ «الأحوط وجوباً»، أو «لزوماً»، أو «وجوبه مبنيّ على الاحتياط»، أو «مبنيّ على الاحتياط اللزومي»، أو «الوجوبي» ونحو ذلك، وفي حكمه ما إذا قلنا: «يشكل كذا» أو «هو مشكل»، أو «محلّ إشكال».
ونُعبّر عن الاحتياط المستحبّ بـ «الأحوط استحباباً» أو «الأحوط الأولى».
(مسألة 22): لا يجب العمل بالاحتياط المستحبّ. وأمّا الاحتياط الواجب فلا بُدَّ في موارده من العمل بالاحتياط، أو الرجوع إلى الغير مع رعاية الأعلم فالأعلم، على التفصيل المتقدّم.
الواجبات والمحرمات ←
→ المقدّمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين.
وبعد:
الاجتهاد والتقليد
يجب على كلّ مكلّف أن يحرز امتثال التكاليف الإلزاميّة الموجّهة إليه في الشريعة المقدّسة، ويتحقّق ذلك بأحد أمور: اليقين التفصيلي، الاجتهاد، التقليد، الاحتياط.
وبما أن موارد اليقين التفصيلي في الغالب تنحصر في الضروريات فلا مناص للمكلّف في إحراز الامتثال فيما عداها من الأخذ بأحد الثلاثة الأخيرة.
الاجتهاد وهو: استنباط الحكم الشرعي من مداركه المقرّرة.
التقليد: ويكفي فيه تطابق عمل المكلّف مع فتوى المجتهد الذي يكون قوله حجّة في حقّه فعلاً مع إحراز مطابقته لها.
والمقلِّد قسمان:
1- من ليست له أيّة معرفة بمدارك الأحكام الشرعيّة.
2- من له حظّ من العلم بها ومع ذلك لا يقدر على الاستنباط.
الاحتياط وهو: العمل الذي يتيقّن معه ببراءة الذمّة من الواقع المجهول، وهذا هو الاحتياط المطلق، ويقابله الاحتياط النسبي، كالاحتياط بين فتاوى مجتهدين يُعلم إجمالاً بأعلميّة أحدهم، وسيجيء في المسألة (18).
والاجتهاد واجب كفائي، فإذا تصدى له من يكتفى به سقط التكليف عن الباقين، وإذا تركه الجميع استحقّوا العقاب جميعاً.
وقد يتعذّر العمل بالاحتياط على بعض المكلّفين، وقد لا يسعه تمييز موارده - كما ستعرف ذلك -، وعلى هذا فوظيفة من لا يتمكّن من الاستنباط هو التقليد، إلّا إذا كان واجداً لشروط العمل بالاحتياط فيتخيّر - حينئذٍ - بين التقليد والعمل بالاحتياط.
(مسألة 1): المجتهد: مطلق ومتجزّئ.
المجتهد المطلق هو: الذي يتمكّن من الاستنباط في جميع أنواع الفروع الفقهيّة.
المجتهد المتجّزئ هو: القادر على استنباط الحكم الشرعي في بعضها دون بعض.
فالمجتهد المطلق يلزمه العمل باجتهاده أو أن يعمل بالاحتياط، وكذلك المتجزّئ بالنسبة إلى الموارد التي يتمكّن فيها من الاستنباط، وأمّا فيما لا يتمكّن فيه من الاستنباط فحكمه حكم غير المجتهد، فيتخيّر فيه بين التقليد والعمل بالاحتياط.
(مسألة 2): المسائل التي يمكن أن يبتلى بها المكلّف عادة - كجملة من مسائل الشكّ والسهو - يجب عليه أن يتعلّم أحكامها، إلّا إذا أحرز من نفسه عدم الابتلاء بها.
(مسألة 3): عمل غير المجتهد بلا تقليد ولا احتياط باطل، بمعنى أنّه لا يجوز له الاجتزاء به، إلّا إذا أحرز موافقته لفتوى من يجب عليه تقليده فعلاً، أو ما هو بحكم العلم بالموافقة، كما سيتضح بعض موارده من المسألة (5).
(مسألة 4): المقلِّد يمكنه تحصيل فتوى المجتهد الذي قلده بأحد طرق ثلاثة:
1- أن يسمع حكم المسألة من المجتهد نفسه.
2- أن يخبره بفتوى المجتهد عادلان أو شخص يثق بنقله.
3- أن يرجع إلى الرسالة العمليّة التي فيها فتوى المجتهد مع الاطمئنان بصحتها.
(مسألة 5): إذا مات المجتهد وبقي المكلّف على تقليده مدّة بعد وفاته من دون أن يقلّد الحيّ في ذلك غفلة عن عدم جواز ذلك ثُمَّ رجع إلى الحيّ، فإن جاز له - بحسب فتوى الحيّ - البقاء على تقليد المتوفى صحّت أعماله التي أتى بها خلال تلك المدّة مطلقاً، وإلّا رجع في الاجتزاء بها إلى الحيّ، فإن عرف كيفيّتها ووجدها مطابقة لفتاوى الحيّ حكم بصحّتها، بل يحكم بالصحّة في بعض موارد المخالفة أيضاً، وذلك فيما إذا كانت المخالفة مغتفرة حينما تصدر لعذر شرعي، كما إذا اكتفى المقلِّد بتسبيحة واحدة في صلاته حسب ما كان يفتي به المجتهد المتوفّى ولكنّ المجتهد الحيّ يفتي بلزوم الثلاث، ففي هذه الصورة يحكم أيضاً بصحّة صلاته. وإذا لم يعرف كيفيّة أعماله السابقة بنى على صحّتها - أيضاً - إلّا في موارد خاصّة لا يناسب المقام تفصيلها.
(مسألة 6): يجوز العمل بالاحتياط، سواء استلزم التكرار أم لا.
الاحتياط قد يقتضي العمل، وقد يقتضي الترك، وقد يقتضي الجمع بين أمرين مع التكرار، أو بدونه.
أمّا الأوّل: ففي ما إذا تردّد حكم فعل بين الوجوب وغير الحرمة، والاحتياط - حينئذٍ - يقتضي الإتيان به.
وأمّا الثاني: ففي ما إذا تردّد حكم فعل بين الحرمة وغير الوجوب، والاحتياط فيه يقتضي الترك.
وأمّا الثالث: ففي ما إذا تردّد الواجب بين فعلين، كما إذا لم يعلم المكلّف في مكان خاصّ أن وظيفته الإتمام في الصلاة أو القصر فيها، فإنّ الاحتياط يقتضي - حينئذٍ - أن يأتي بها مرّة قصراً ومرّة تماماً.
وأمّا الرابع: ففي ما إذا علم إجمالاً بحرمة شيء أو وجوب شيء آخر، فإنّ الاحتياط يقتضي في مثله أن يترك الأوّل ويأتي بالثاني.
(مسألة 7): كلّ مورد لا يتمكّن المكلّف فيه من الاحتياط يتعيّن عليه الاجتهاد أو التقليد، كما إذا تردّد مال شخصي بين صغيرين أو مجنونين أو صغير ومجنون، فإنّه قد يتعذّر الاحتياط في مثل ذلك فلا بُدَّ - حينئذٍ - من الاجتهاد أو التقليد.
(مسألة 8): قد لا يسع المكلّف أن يميّز ما يقتضيه الاحتياط التّام، مثال ذلك: أنّ الفقهاء قد اختلفوا في جواز الوضوء والغسل بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر، فالاحتياط يقتضي ترك ذلك، إلّا أنّه إذا لم يكن عند المكلّف غير هذا الماء فالاحتياط يقتضي أن يتوضّأ أو يغتسل به، ويتيمّم أيضاً إذا أمكنه التيمّم. فإذا عرف المكلّف كيفيّة الاحتياط التامّ في مثل ذلك كفاه العمل على وفقه.
وقد يعارض الاحتياطُ من جهةٍ الاحتياطَ من جهةٍ أخرى فيتعذّر الاحتياط التامّ - وقد يعسر على المكلّف تشخيص ذلك - مثلاً: إذا تردّد عدد التسبيحة الواجبة في الصلاة بين الواحدة والثلاث، فالاحتياط يقتضي الإتيان بالثلاث، لكنّه إذا ضاق الوقت واستلزم هذا الاحتياط أن يقع مقدار من الصلاة خارج الوقت وهو خلاف الاحتياط، ففي مثل ذلك ينحصر الأمر في التقليد أو الاجتهاد.
(مسألة 9): إذا قلّد مجتهداً يفتي بحرمة العدول حتّى إلى المجتهد الأعلم وجب عليه أن يقلّد الأعلم في هذه المسألة، سواء أكان هو هذا المجتهد أم غيره. وكذا الحال فيما إذا أفتى بجواز تقليد غير الأعلم ابتداءً.
(مسألة 10): يصحّ تقليد الصبيّ المميّز، فإذا مات المجتهد الذي قلده الصبيّ قبل بلوغه كان حكمه حكم غيره - الآتي في المسألة (14) - إلّا في وجوب الاحتياط بين القولين قبل البلوغ.
(مسألة 11): يجوز تقليد من اجتمعت فيه أمور:
1- البلوغ.
2- العقل.
3- الرجولة.
4- الإيمان، بمعنى أن يكون اثني عشريّاً.
5- العدالة.
6- طهارة المولد
7- الضبط، بمعنى أن لا يقلّ ضبطه عن المتعارف.
8- الاجتهاد.
9- الحياة، على تفصيل سيأتي.
(مسألة 12): تقليد المجتهد الميّت قسمان: ابتدائي وبقائي.
التقليد الابتدائي هو: أن يقلّد المكلّف مجتهداً ميّتاً من دون أن يسبق منه تقليده حال حياته.
والتقليد البقائي هو: أن يقلّد مجتهداً معيّناً شطراً من حياته ويبقى على تقليد ذلك المجتهد بعد موته.
(مسألة 13): لا يجوز تقليد الميّت ابتداءً ولو كان أعلم من المجتهدين الأحياء.
(مسألة 14): يجوز البقاء على تقليد الميّت ما لم يعلم - ولو إجمالاً - بمخالفة فتواه لفتوى الحيّ في المسائل التي هو في معرض الابتلاء بها، وإلّا فإن كان الميّت أعلم وجب البقاء على تقليده، ومع كون الحيّ أعلم يجب الرجوع إليه. وإن تساويا في العلم أو لم يثبت أعلميّة أحدهما من الآخر فإن ثبت أنّ أحدهما أورع من الآخر - أي أكثر تثبتاً واحتياطاً في مقام الإفتاء - وجب تقليده، وإن لم يثبت ذلك أيضاً كان المكلّف مخيّراً في تطبيق عمله مع فتوى أيّ منهما ولا يلزمه الاحتياط بين قوليهما إلّا في خصوص المسائل التي تقترن بالعلم الإجمالي بحكم إلزامي ونحوه، كما إذا أفتى أحدهما بوجوب القصر والآخر بوجوب الإتمام فيجب عليه الجمع بينهما، أو أفتى أحدهما بصحّة معاوضة والآخر ببطلانها فإنّه يعلم بحرمة التصرّف في أحد العوضين فيجب عليه الاحتياط حينئذٍ.
ويكفي في البقاء على التقليد - وجوباً أو جوازاً - الالتزام بالعمل بفتوى المجتهد المعيّن، ولا يعتبر فيه تعلّم فتاواه أو العمل بها حال حياته.
(مسألة 15): لا يجوز العدول إلى الميّت ثانياً بعد العدول عنه إلى الحيّ والعمل مستنداً إلى فتواه، إلّا إذا ظهر أنّ العدول عنه لم يكن في محلّه، كما إذا عدل إلى الحيّ بعد وفاة مقلَّده الأعلم فمات أيضاً، فقلّد من يوجب البقاء على تقليد الأعلم فإنّه يلزمه العود إلى تقليد الأوّل.
(مسألة 16): الأعلم هو: الأقدر على استنباط الأحكام، وذلك بأن يكون أكثر إحاطة بالمدارك وبتطبيقاتها من غيره، بحيث يوجب صرف الريبة الحاصلة من العلم بالمخالفة إلى فتوى غيره.
(مسألة 17): يجب الرجوع في تعيين الأعلم إلى الثقة من أهل الخبرة والاستنباط المطّلع - ولو إجمالاً - على مستويات من هم في أطراف شبهة الأعلميّة في الأمور الدخيلة فيها، ولا يجوز الرجوع إلى من لا خبرة له بذلك.
(مسألة 18): إذا تعدّد المجتهد الجامع للشروط ففيه صورتان:
1- أن لا يعلم المكلّف الاختلاف بينهم في الفتوى في المسائل التي تكون في معرض ابتلائه، ففي هذه الصورة يجوز له تقليد أيّهم شاء وإن علم أن بعضهم أعلم من البعض الآخر.
2- أن يعلم - ولو إجمالاً - الاختلاف بينهم في المسائل التي تكون في معرض ابتلائه، وهنا عدّة صور:
الأولى: أن يثبت لديه أن أحدهم المعيّن أعلم من الباقين، وفي هذه الحالة يجب عليه تقليده.
الثانية: أن يثبت لديه أن اثنين - مثلاً - منهم أعلم من الباقين مع تساوي الاثنين في العلم، وحكم هذه الصورة ما تقدّم في المسألة (14) في صورة تساوي المجتهدَيْن المتوفى والحيّ.
الثالثة: أن يثبت لديه أن أحدهم أعلم من الباقين ولكن يتعذّر عليه تعيينه بشخصه بأن كان مردّداً بين اثنين منهم - مثلاً -، وفي هذه الحالة يلزمه رعاية الاحتياط بين قوليهما في موارد اختلافهما في الأحكام الإلزاميّة، سواء أكان الاختلاف في مسألة واحدة كما إذا أفتى أحدهما بوجوب الظهر والآخر بوجوب الجمعة - ولو مع احتمال الوجوب التخييري -، أم في مسألتين كما إذا أفتى أحدهما بالجواز في مسألة والآخر بالوجوب فيها وانعكس الأمر في مسألة أخرى. وأمّا إذا لم يكن كذلك فالظاهر عدم وجوب الاحتياط، كما إذا لم يعلم الاختلاف بينهما على هذا النحو إلّا في مسألة واحدة، أو علم به في أزيد منها مع كون المفتي بالوجوب - مثلاً - في الجميع واحداً.
هذا كلّه مع إمكان الاحتياط، وأمّا مع عدم إمكانه - سواء أكان ذلك من جهة دوران الأمر بين المحذورين، كما إذا أفتى أحدهما بوجوب عمل والآخر بحرمته، أم من جهة عدم اتّساع الوقت للعمل بالقولين - فاللازم أنّ يعمل على وفق فتوى من يكون احتمال أعلميّته أقوى من الآخر، ومع تساويه في حقّ كليهما يتخيّر في العمل على وفق فتوى من شاء منهما.
(مسألة 19): إذا لم يكن للأعلم فتوى في مسألة خاصّة أو لم يمكن للمقلِّد استعلامها حين الابتلاء جاز له الرجوع فيها إلى غيره مع رعاية الأعلم فالأعلم - على التفصيل المتقدّم -، بمعنى أنّه إذا لم يعلم الاختلاف في تلك الفتوى بين مجتهدين آخرين - وكان أحدهما أعلم من الآخر - جاز له الرجوع إلى أيّهما شاء، وإذا علم الاختلاف بينهما لم يجز الرجوع إلى غير الأعلم.
(مسألة 20): يثبت الاجتهاد أو الأعلمية بأحد أمور:
1- العلم الوجداني أو الاطمئنان الحاصل من المناشئ العقلائيّة كالاختبار ونحوه، وإنّما يتحقّق الاختبار فيما إذا كان المقلِّد قادراً على تشخيص ذلك.
2- شهادة عادلين بها، والعدالة هي: الاستقامة العمليّة في جادة الشريعة المقدّسة الناشئة غالباً عن خوف راسخ في النفس، وينافيها ترك واجب أو فعل حرام من دون مؤَمِّن.
ويعتبر في شهادة العدلين أن يكونا من أهل الخبرة، وأن لا يعارضها شهادة مثلها بالخلاف.
ولا يبعد ثبوتهما بشهادة من يثق به من أهل الخبرة وإن كان واحداً. ومع التعارض يؤخذ بقول من كان منهما أكثر خبرة بحدٍّ يوجب صرف الريبة الحاصلة من العلم بالمخالفة إلى قول غيره.
(مسألة 21): الاحتياط المذكور في هذه الرسالة قسمان: واجب ومستحب.
ونُعبّر عن الاحتياط الواجب بـ «الأحوط وجوباً»، أو «لزوماً»، أو «وجوبه مبنيّ على الاحتياط»، أو «مبنيّ على الاحتياط اللزومي»، أو «الوجوبي» ونحو ذلك، وفي حكمه ما إذا قلنا: «يشكل كذا» أو «هو مشكل»، أو «محلّ إشكال».
ونُعبّر عن الاحتياط المستحبّ بـ «الأحوط استحباباً» أو «الأحوط الأولى».
(مسألة 22): لا يجب العمل بالاحتياط المستحبّ. وأمّا الاحتياط الواجب فلا بُدَّ في موارده من العمل بالاحتياط، أو الرجوع إلى الغير مع رعاية الأعلم فالأعلم، على التفصيل المتقدّم.